قضايا وآراء

الأبعاد الاجتماعية والسياسية للتحول من حفظ القرآن الكريم إلى تعليمه

1300x600

تعاني مجتمعات الدول النامية المعاصرة من عدة إشكاليات في طريقة ومنهاج تفكيرها، وجهازها المعرفي وبنيتها المعرفية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تفصح جميعها عن أزمة كبيرة في بناء الإنسان والمجتمع. ونعد ذلك نتيجة لسبب أساسي وهو اختزال علاقة هذه المجتمعات مع القرآن الكريم إلى مجرد التلاوة والحفظ، بدلا من التلاوة والتدبر والفهم وإنتاج المفاهيم والتطبيقات المعاصرة، والتدرب على ممارستها والتخلق بها لتتحول إلى ثقافة حياة. وأثناء هذا المسار تتشكل شخصية الإنسان وتنمو بشكل طبيعي في جوانبها الستة العقائدية والعبادية والذهنية الثقافية والاجتماعية النفسية والعاطفية والسلوكية والبدنية، فتصنع الإنسان الحضاري القوي. ولهذا سأحاول الإجابة على أسئلة ماهية ذلك الاختزال وخطورته وأسبابه وكيفية الخروج منه.

مفهوم الحفظ:

يقتصر مفهوم الحفظ على جمع المتن وحفظه بالعقل، دونما فهم أو استيعاب لمعانيه ومضمونه لاسترجاعه عند الحاجة.

مفهوم التعلم:

لكن يتسع مفهوم التعليم ليشمل فهم وإدراك معاني المتن من أسباب ودلالات، فيمتد إلى إنتاج تطبيقات ومجالات توظيف عملية تمهيدا لتعلمها والتدرب على تطبيقها واحتراف تنفيذها والتخلق بها لتصبح نمطا وثقافة لحياته. وبذلك يتضمن مفهوم التعلم خمسة مفاهيم تفصيلية هي:

1- الاستثارة والاهتمام نحو إدراك المتن المعروض ومعرفته.

2- فهم واستيعاب معاني وحقائق ودلالات المتن والرسائل التي يقدمها.

3- ترجمة المتن إلى مفاهيم وسياسات ومعايير منظمة للتفكير وصناعة القرار، وتطبيقات وواجبات عملية.

4- التدرب على تنفيذها واكتسابها وتنفيذها بطريقة صحيحة.

5- التخلق بها والتحول إلى نمط وثقافة حياة يعرف بها بين الناس.

معايير تعلم القرآن الكريم:

وبذلك نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحدد المعايير التربوية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث "خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه" (رواه البخاري).

إن من خير المسلمين منزلة هو من تعلم القرآن وفق المعايير التربوية لمفهوم التعلم، وعمل في إعادة تعليمها لغيره من الناس، ومعايير التعلم والتعليم هي:

1- تعلم التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم.

2- إدراك وفهم واستيعاب معاني الآيات من التفاسير السابقة كمادة خام داعمة للتدبر، والإنتاج المعرفي المتجدد، بما يواكب معطيات الحياة ووقائع العصر وأسئلته.

3- إعمال العقل والتدبر في هذه الآيات باستخدام أدوات التدبر المتعارف عليها، وإنتاج مفاهيم جديدة معاصرة إضافية على ما فهم من التفاسير السابقة، تمثل حصاد هذا التدبر المتجدد.

4- ترجمة هذه المفاهيم إلى تطبيقات معاصرة للإجابة على أسئلة العصر وتحديات ومشاكل الحياة الحالية، بالإضافة إلى بناء وتطوير شخصية الإنسان.

5- التدرب العملي بحافزية ذاتية وتعاون مع المربين المحيطين على تنفيذ هذه الواجبات، وتكرارها واحترافها بما يطور تفكير الإنسان، وينمي معارفه ويحسن سلوكه، ويجود أداءه المهني، ويطور ويعمق علاقته بالمجتمع المحيط به، ويحسن صورته الذهنية وقيمته المضافة وفاعليته وأثره في المجتمع والحياة.

6- التمسك بتمثل هذه المفاهيم حتى تتحول إلى خلق يشهد به المتعاملون معه، ويوسم به بين الناس كثقافة ونمط حياة يعيش به، بمعنى أن يترجم المعاني النظرية للقرآن إلى واقع بشري يتحرك بين الناس.

7- التعلم في الحديث تشير إلى إيجابية وحافزية المتعلم نحو التعلم الذاتي، والمشاركة الفعالة في الحوار والنقاش، في ما يعرف بالتعلم التعاوني النشط مع الأقران والمربين.

العلاقة الطبيعية للمسلم مع القرآن الكريم:

وبذلك يجب أن تنتظم علاقة عموم المسلمين مع القرآن الكريم في شكل علاقة سداسية متتالية المراحل ومتكاملة فيما بينها، وصولا إلى التربية الذاتية وإنتاج المواطن القرآني، الممثل العملي لقيم ومفاهيم القرآن الكريم في واقع الأسرة والمؤسسة والنادي والمجتمع:

1- القراءة والتلاوة الصحيحة.

2- دراسة التفسير وتدبر آيات ومقاطع وقصص وسور القرآن الكريم.

3- إنتاج المفاهيم المعاصرة المتجددة.

4- ترجمة المفاهيم إلى تطبيقات عملية وواجبات عملية معاصرة في حياتنا اليومية.

5- التدرب على تنفيذ المفاهيم واكتسابها بشكل صحيح.

6- مداومة الالتزام والتخلق بها في كل مكان وزمان، ومع كل الناس، وفي الظروف العادية وغير العادية التي يمكن أن تمثل ضغطا ما على الفرد، حتى تتحول إلى ثقافة ونمط حياة.

ملاحظة: يلاحظ هنا أننا لم ندرج الحفظ من المكونات الستة للمسلم في علاقته مع القرآن الكريم، وذلك لأن:

أ- الحفظ موهبة نسبية تتوفر لبعض الناس دون البعض الآخر.

ب- القرآن الكريم والسنة المطهرة لم يأمرا بحفظ القرآن، بل بتدبره وفهم معانيه والتخلق والعمل به.

ج- لم يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بحفظ القرآن، بل بفهمه والعمل به، لذلك لم يحفظ القرآن الكريم من الصحابة إلا عدة آلاف ربما أقل من العشرة آلاف، بينما بلغ عدد الصحابة ما يقارب 171 ألفا.

تدبر وتعلم القرآن الكريم واجب وطني للمسلم وغير المسلم


ثمرات تدبر وتعلم القرآن الكريم

لتدبر القرآن الكريم أدوار وظيفية بالغة الأهمية في بناء العناصر الستة المكونة لشخصية المواطن: تفكيره ووجدانه وتكوينه النفسي والاجتماعي والمعرفي والسلوكي والصحي والبدني.

أولا: تدبر القرآن ينمي مهارات التفكير البسيطة والمركبة وعددها أربع وعشرون مهارة، وكذلك يمكن الإنسان من ممارسة مناهج التفكير الستة الأساسية بعملية وتلقائية وسهولة شديدة منهج التفكير العلمي والتحليلي والاستقرائي والاستنباطي والمقاصدي والنقدي.

ثانيا: تدبر وتعلم القرآن يمنح الإنسان ثروة وبنية معرفية واسعة في مجال العلوم الإنسانية والكونية.

ثالثا: تدبر وتعلم القرآن يعزز القدرة على التعلم الذاتي وتحصيل وإنتاج المعرفة.

رابعا: تدبر وتعلم القرآن يساهم في تحسين السلوك الشخصي للمواطن.

خامسا: تدبر القرآن يحسن من جودة الأداء المهني للمواطن.

سادسا: تدبر وتعلم القرآن ينمّي ويفتح تصورات الإنسان على العالم المحيط به بكافة عناصره، بما يعزز من علاقته به وخاصة علاقاته الاجتماعية.

سابعا: تدبر وتعلم القرآن يزيد من القيمة المضافة للإنسان، ومن الكاريزما الشخصية الخاصة به وفاعليته وتأثيره في المحيطين حوله.

الأبعاد الاجتماعية لتعلم القرآن الكريم

انتشار وتعزيز ثقافة تدبر وتعلم القرآن الكريم وتحولها إلى ثقافة مجتمعية ونمط لحياة المجتمع؛ تساهم في بناء الشخصيات القرآنية العملية وتحول المجتمع إلى مجتمع قرآني يتمثل تصورات وقيم ومفاهيم وأخلاق القرآن الكريم، بما يحدث تحولات اجتماعية كبرى للشخصية الجمعية للمجتمع تتجلى تفاصيلها في النواحي التالية:

أولا: في مجال التفكير الجمعي للمجتمع

يتحول المجتمع من أنماط تفكير المجتمعات البدائية النامية التي تعيش بالتفكير بالتمني والعشوائي والخرافي والتبريري إلى التفكير المنطقي العلمي المنهجي العملي، من خلال ما تمارسه تلقائيا من عمليات ومناهج تفكير في تدبر آيات ومقاطع وقصص وسور القرآن، والتدرب على تنفيذها والتزامها والتخلق بها سلوكا ونمطا وثقافة للحياة.

ثانيا: في مجال الثقافة المجتمعية:

يتحول المجتمع من مجتمع العقم والعجز المعرفي والفراغ الثقافي الذاتي والهروب إلى الاستغراق في الثقافة المنتجة من الأجيال السابقة والتغني بها، وتلقي الثقافات الحديثة الوافدة المنتجة خارجيا وخلق حالة من الصراع الجدلي المفتعل بينهما؛ إلى تدبر وتعلم القرآن وتوظيفه في إنتاج الإجابات على أسئلة وتحديات ومشاكل العصر، وإنتاج ثقافة قرآنية عملية جديدة مكافئة للعصر؛ أكثر حداثة وعملية وفاعلية في إثراء الحياة العامة وتنمية وتحضر وتطور المجتمع في مجالاته المختلفة، وإنتاج منتجات معرفية حضارية ثقافية ومادية جديدة تتنافس وتتكامل بها مع المنتجات الثقافية والحضارية للعالم من حولها.

ثالثا: في مجال ترتيب أولويات المهام والأهداف والمشاركة المجتمعية

يتحول المجتمع من مجتمع اللعب والمظهرية والاستهلاك والترف، والفردية والأنانية، والعصبية العرقية والقبلية والأيديولوجية البغيضة، والفرقة والصراع البيني، إلى مجتمع الجد والعلم والعمل والإنتاج والتعايش الحضاري بين كافة مكوناته المختلفة، والمشاركة الإيجابية في الشأن العام والوحدة والاحتشاد خلف قيادته ومشروعه الوطني؛ مستوفيا كافة شروط الدولة القوية الحديثة، ومتحررا من حياة المجتمعات الكرتونية الهشة التي تعيش على هامش الحياة تترقب وتخاف من نهايتها المحتومة؛ إلى مجتمعات حقيقية قوية وراسخة وصلبة بقوتها البشرية الفاعلة وقوة إنتاجها وكفايتها الذاتية في الغذاء والدواء والسلاح والمعلومات والأمن، تعيش في قلب العالم، تؤثر وتتأثر وتفرض نفسها على المجتمع الدولي كدولة قوية ومهمة دائمة النمو والتقدم، وباقية بقاء الحياة حتى نهايتها.

رابعا: في مجال إدارة واستثمار القوة البشرية في تعزز الأمن القومي للدولة

بناء الإنسان والمجتمع القرآني الحضاري يحيي الفاعلية الحضارية في القوة البشرية للمجتمع، ويحولها من أرقام سكانية ضخمة هي عالة وعبء على الدولة؛ إلى قوة بشرية وقيمة مضافة لرصيد إنتاج وقوة وصلابة وحصانة الدولة.

خامسا: في مجال الوعي المجتمعي:

التحول من مجتمع يعيش الإحساس بالضعف والدونية والعجز والتبعية، غير واع بذاته ومواهبه وقدراته وموارده التي تمثل ممكناته الخاصة على الفعل والإنجاز وفرصه في المشاركة في صناعة المستقبل، كذلك غير واع باستشراف المستقبل والإعداد له، غارقا في منظومة من المفاهيم والمسلّمات غير الصحيحة عن علاقته بالآخر والعالم والتي تؤطرها نظرية المؤامرة وسيطرة الدول الكبرى المطلقة على مقاليد الأمور وفرص النمو في العالم، وأنه لن يسمح للمجتمعات الناشئة بالعبور إلى المستقبل، والتي تشكل في مجملها قيودا ذاتية وعوائق داخلية على الفعل والإنجاز.

تدبر وتعلم القرآن الكريم يمنح الإنسان والمجتمع تصورات وآفاقا إيجابية واسعة عن النفس والآخر والكون، ويعزز من طموحه ويحفزه على الفعل والإنجاز والمنافسة المستمرة، موثقا ذلك بحركة تداول المجتمعات في التاريخ، وشارحا ومبينا أسباب هذا التداول، ومانحا الجميع فرصة العمل والإنجاز والمنافسة بكل حرية وعدالة وتكافؤ فرص النمو للجميع.

سادسا: معدلات الفقر والتنمية

تدبر وتعلم القرآن وما يحققه من نمو في مستويات التفكير والمعرفة والسلوك والأداء المهني؛ يعزز من قوة الفرد والمجتمع على الإحساس بالمسؤولية الفردية والمجتمعية في الدنيا والآخرة، ومن ثم ضرورة العمل والإنتاج والإتقان التزاما بالمعايير الدولية في كل شيء، وسعيا لولوج الأسواق العالمية والمنافسة، وضبط الميزان التجاري ورفع معدلات النمو الاقتصادي.

الأبعاد السياسية لتدبر وتعلم القرآن الكريم

تدبر وتعلم معتقدات وقيم ومفاهيم القرآن الكريم يصنع المواطن الواعي المعتز بكرامته الإنسانية وحريته، الإيجابي المشارك في الشأن العام، والوطني المقدم روحه فداء لإستقلال وعز وكرامة وطنه، المنضبط بدستور وقانون الدولة، المحترم لقيادته السياسية الشرعية المنتخبة، أو المبايع والمتفق عليها شعبيا، حيث يمثل ذلك التزاما دينيا ووطنيا معا، وتتجلى مظاهر ذلك في العقل الجمعي للمجتمع في شكل:

1- المشاركة الإيجابية في الشأن العام.

2- قوة الانتماء الوطني والاستعداد للتضحية من أجله.

3- الوحدة والاحتشاد الوطني.

4- الوعي وصد محاولات الاختراق الخارجي.

5- النزعة المستمرة للعدالة والإصلاح.

6- ممارسة الرقابة الفردية والمؤسسية على أداء النظام السياسي الحاكم وتقويمه ودعمه.

لعلنا الآن نتمكن من فهم سبعة أشياء مهمة

الأول: خطاب تكليف الحاكم العسكري لمصر حين كلف القس دانلوب بتصميم نظام تعليمي وثقافي لمصر، حيث كلفه بخطاب موجز: أريد يدا مصرية وعقلا بريطانيا.

الثاني: تعمد اختزال دور عشرات آلاف كتاتيب ومراكز القرآن على التحفيظ فقط، دون تعليم التدبر والتخلق بالقرآن الكريم.

الثالث: اهتمام الحكام الطغاة والمستبدين ولعقود طويلة بحفلات تكريم حفاظ القرآن الكريم، وامتصاص واختزال وتنفيس العاطفة والتوجهات الدينية للمجتمع في ثقافة الحفظ فقط.

الرابع: ضعف فاعلية مراكز التحفيظ في الحياة الخاصة والعامة للدول العربية والإسلامية بالرغم من تخريجها لملايين الحفاظ، الذين لا أثر لهم في الحياة العامة للمجتمعات العربية.

الخامس: ضعف وتخلف القوة البشرية للدول العربية والإسلامية مقارنة بالقوة البشرية للدول المتقدمة.

السادس: التوجيه القرآني والنبوي الواضح والمحدد:

- "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص: 29). فهدف نزول الوحي هو تدبره حتى يمكن فهمه والتخلق والعمل بمقتضاه لبناء الإنسان والمؤسسة والمجتمع.

- "خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ"، بلفظ ومعنى خيركم من تعلم وعمل وليس حفظ وحفظ، أي تعلم وفق معايير التعليم العالمية التي بلغها الفكر البشرى وتعارف عليها؛ من فهم واستيعاب وعمل وتخلق وتحسين مستمر لجودة السلوك والأداء والإنجاز.

السابع: ما ذكره لي أحد مسؤولي التربية والتعليم بدولة روحية كبيرة الحجم، بأن مشروعك لتعليم القرآن وبناء القيم والهوية مخالف لتوجهاتنا السياسة. ومع النقاش وإصراري على معرفة السبب، أفصح عن أنه سيحول المجتمع إلى مجمتع واع تصعب قيادته، بينما نريده مجتمعا غير واع.. مجتمعا لل.. تسهل قيادته.. والله هكذا أفصح لي بعد طول نقاش.

أستطيع أن أؤكد علميا أن تدبر وتعلم القرآن مفيد للمسلم وغير المسلم، كمنهاج لبناء المواطن والمجتمع الصالح القوى النافع للناس، كل الناس.. تدبر وتعلم القرآن الكريم حاجة إنسانية لازمة لكل البشر.