كتاب عربي 21

ماذا لو فشلت السلطة بتونس في إدانة البحيري؟

1300x600
كثير من الذين يدافعون عن نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري يختلفون معه جذريا، ويحملونه شخصيا جزءا من مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي، ضمن خلافهم مع الحركة التي ينتمي إليها. فالقاضي المتقاعد أحمد صواب اتهم البحيري بارتكاب "مجزرة" في حق القضاة عندما كان وزيرا للعدل، لكن في الآن نفسه وصف قرار وضعه تحت الإقامة الجبرية بأنه "أمر فاش لدولة الاستبداد".

أما أحمد نجيب الشابي الذي انتقل مع عدد من السياسيين والنشطاء إلى مدينة بنزرت حيث يرقد البحيري، وحاول أن يقنع رجال الأمن بالسماح لهم بالدخول للاطمئنان على أوضاعه لكن تم منعه، فقد كان ولا يزال يعتبر أن حركة النهضة بعد الثورة "هي خصمه السياسي الأول". أما اليوم، فقد اقتنع مرة أخرى بأن الخطر لا يكمن حاليا في النهضة وحلفائها، بقدر ما يكمن في المنعرج الذي فرضه رئيس الجمهورية على الجميع.

البحيري شخصية خلافية، له خصوم حتى من داخل الحزب الذي ينتمي إليه، وقد تعرض لحملة واسعة من فترة طويلة من قبل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قام بها خصومه السياسيون؛ حتى اقتنع الرأي العام بكونه "أخطر شخص في البلاد بعد راشد الغنوشي". لهذا عندما تم اعتقاله، عبر الكثيرون عبر الفيسبوك عن "ارتياحهم"، ولم يلتفتوا إلى طريقة الإيقاف التي اعتبرها محاموه وكثير من السياسيين بأنها "اختطاف" خارج دائرة القانون. ولم يفكر هؤلاء الذين أيدوا اعتقال البحيري في كونه مواطنا تونسيا له حقوق، وأن الدولة مطالبة بأن تحميه ولا تعتدي عليه بأي شكل من الأشكال، وهي مدعوة إلى أن توفر له ولغيره الضمانات الواردة في التشريعات التونسية والمواثيق الدولية.
البحيري ليس فوق القانون، هو سياسي يتحمل مسؤولية أعماله ومواقفه. لهذا كان الجميع ينتظرون أن يعرض على القضاء، وأن تواجهه السلطة بأدلة قطعية تثبت تورطه

البحيري ليس فوق القانون، هو سياسي يتحمل مسؤولية أعماله ومواقفه. لهذا كان الجميع ينتظرون أن يعرض على القضاء، وأن تواجهه السلطة بأدلة قطعية تثبت تورطه في "الإرهاب وتسفير الشباب نحو بؤر التوتر، وسرقة المال العام، والتخطيط لارتكاب جرائم واغتيالات"، وغيرها من التهم الخطيرة التي جعلت رئيس الدولة يتعرض له في كلماته المتلفزة مباشرة خلال ثلاث مناسبات على الأقل. لكن لم يحدث أي شيء من ذلك، حيث كانت المفاجأة أن ما جاء على لسان وزير الداخلية لم يكن في مستوى الانتظارات، لتدخل  القضية بسبب ذلك في متاهات متعددة، وتخلف وراءها أسئلة كثيرة قد تبقى معلقة دون جواب.

يبدو أن قرار إيقاف وزير العدل السابق اتخذ على أعلى مستوى قبل توفير الأدلة التي تدينه بوضوح، لهذا تم الانتقال مباشرة إلى "اعتقاله" دون توفير شروط المحاكمة العادلة. والدليل على ذلك ما جاء على لسان رئيس جمعية القضاة التونسيين من أن رئاسة الجمهورية اتصلت في البداية بوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية وبزميله في محكمة ولاية بنزرت حيث يحتجز حاليا، وطلبت منهما تباعا إصدار بطاقة إيداع بالسجن، لكنهما رفضا الاستجابة لذلك الطلب بسبب "عدم توفر الأدلة الكافية"!!

عندما يتطوع البعض من مشارب متعددة للدفاع عن خصم لدود، فهذا يعني أن الذين يديرون السلطة قد أخطأوا الطريق والوسيلة، وأن ذلك الخطأ يمكن أن ينعكس سلبا على صورة النظام ومصداقيته؛ إذ في مثل هذه الحالة بدل أن تثبت التهمة ضد البحيري، قد يحصل العكس، يخرج بريئا ويصبح بطلا في عيون الناس بعد أن ألصقت به كل الكبائر. ومن ثم تنقلب الصورة تماما، وتتحول الأنظار مباشرة نحو القيادة السياسية للبلاد لمطالبتها بالجدية واحترام الحقوق والحريات، وهو ما دفع بمنظمات حقوقية مشهود لها عالميا بالنزاهة والجدية، مثل "هيومن رايتس ووتش" تطالب السلطات التونسية بإطلاق سراح البحيري فورا.
لم تتراجع رئاسة الجمهورية عن مواصلة السير في نفس الاتجاه، إذ بدل لملمة الملف، أو تقديم أدلة إضافية قاطعة، تم الهجوم على القضاة من جديد، ورفض الرئيس سعيد ما سماه بـ"دولة القضاة"، وذكرهم مرة أخرى بأنهم موظفون في الدولة وليسوا سلطة مستقلة

لم تتراجع رئاسة الجمهورية عن مواصلة السير في نفس الاتجاه، إذ بدل لملمة الملف، أو تقديم أدلة إضافية قاطعة، تم الهجوم على القضاة من جديد، ورفض الرئيس سعيد ما سماه بـ"دولة القضاة"، وذكرهم مرة أخرى بأنهم موظفون في الدولة وليسوا سلطة مستقلة. على هذا الأساس بدأ القضاة يستعدون لمواجهة ستكون أشبه بالعاصفة دفاعا عن استقلاليتهم، بعد أن بات واضحا أن الرئيس مصرّ على حل المجلس الأعلى للقضاء؛ اعتقادا منه بأن ذلك سيكون المدخل الضروري لإنجاز ما يسميه بـ"تطهير القضاء"، وقد يحصل ذلك بعد أسابيع قليلة.

ما حصل للبحيري قد يتكرر مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي وجهت له دعوة للتحقيق معه بتهمة راجت مؤخرا تتعلق بثروته التي قيل بكونها في حدود 2700 مليار من المليمات، وهو رقم خيالي على الجهات المتهمة للرجل بتقديم الإثباتات القاطعة. ومن المتوقع أن يشمل التحقيق كوادر عديدة في حركة النهضة للتأكد من مدى تورطها في سرقة المال العام، أو مدى صلتها بـ"الجهاز السري" الذي تتحدث لجنة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد. هذا يعني أن إيقاف البحيري ليس سوى مقدمة لسلسلة من الإيقافات والإجراءات الأخرى التي سيصدرها الرئيس سعيد خلال هذه السنة بهدف تحجيم خصومه السياسيين، وإعادة ترتيب الوضع الداخلي الذي سيسمح له بالانفراد بالحكم والتسيير.