مقالات مختارة

أجنحة السودان المتعبة!

1300x600

شتاء سياسى ساخن يعيشه السودان حاليا، بعد أن وصلت العلاقة بين المكونين المدنى والعسكرى فى مجلس السيادة الحاكم لطريق مسدود، حيث تصر القوى المدنية على فض الشراكة مع العسكريين، وتأسيس سلطة مدنية كاملة تقود البلاد حتى إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهى تتسلح بمظاهرات حاشدة لقى فيها 62 سودانيا مصرعهم منذ أكتوبر الماضى فقط، بحسب بيان للجنة أطباء السودان المركزية.


وسط هذا المناخ الملبد بالغيوم والدماء، وبعد مليونية حاولت الاقتراب من أسوار القصر الجمهورى بالخرطوم الأحد الماضى جابهتها قوات الأمن بالغاز المسيل للدموع، أطلقت الأمم المتحدة عبر بعثتها الموجودة بالسودان مبادرة لإجراء حوار بين كل الأطراف السودانية لتجاوز الأزمة الراهنة، والاتفاق على مسار سياسى يجنب البلاد المزيد من العنف ضد المتظاهرين السلميين، ويفتح الباب أمام تحقيق أهداف الثورة فى الحرية والسلام.


ورغم أن التصريحات المبدئية لممثلى القوى المدنية الرئيسية وعلى رأسها الحرية والتغيير وتجمع المهنيين وتنسيقية لجان المقاومة كانت رافضة للمبادرة الأممية، إلا أن مواقفها تجاهها قد تتغير خاصة بعد أن تسربت بعض تفاصيل هذه المبادرة التى تشمل إلغاء مجلس السيادة، وتعويض العسكريين بمجلس للأمن والدفاع يكون تحت إشراف رئيس الوزراء الذى سيمتلك صلاحيات تنفيذية كاملة تتضمن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، لتسيير أوضاع البلاد حتى إجراء الانتخابات التشريعية.


ومع ذلك، فإن إصرار بعض القوى الفاعلة فى الشارع على تقديم قتلة المتظاهرين للعدالة، وعلى استبعاد أى تواجد للمكون العسكرى فى حكم البلاد، قد يعرقل تنفيذ هذه المبادرة، ليضع السودان أمام مرحلة جديدة من الصراعات، وسط أزمة اقتصادية طاحنة يعانى من ويلاتها الجميع.


خلافات قوى الثورة السودانية حول هذه المبادرة تزيد من تعقيدات المشهد السودانى لأكثر من سبب، أولها أن صدام الشارع السودانى الغاضب لن يكون مع المكون العسكرى فى مجلس السيادة فقط، بل سترتفع احتمالاته ليكون مع الجيش نفسه، خاصة أن القضايا المتعلقة بالعدالة الانتقالية، وعلى رأسها محاكمة المتهمين بقتل مئات المتظاهرين أثناء الثورة، ستضع الكثير من ضباط الجيش وجنوده فى دائرة الاتهام.


وثانيا وهو الأمر الأكثر أهمية سياسيا، أن المكون المدنى فى السودان له تاريخ طويل من الخلافات السياسية الطاحنة، وتتجاذبه انحيازات عرقية وجهوية لاتزال امتداداتها محفورة فى الذهن السياسى السودانى، لدرجة أن عبدالله حمدوك قدم استقالته كرئيس للوزراء بعد أن بلغ يأسه منتهاه من اتفاق القوى المدنية المتنازعة على حل وسط يضمن استقرار البلاد خلال ما تبقى من المرحلة الانتقالية.
أما الأمر الثالث الذى يزيد من تعقيد المشهد السودانى فيتمثل فى ارتفاع «خطر الانفصال» الذى كان دوما يحيط بالسودان منذ استقلاله، والذى تحقق بالفعل فى الجنوب وترتفع راياته بين الحين والآخر فى المناطق المهمشة فى شرق البلاد وغربها، والتى تنتشر بها ثقافة القبيلة والولاءات الجهوية وتكتسب أرضا جديدة مع كل انكسار لمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية.


أزمة السودان أكبر بكثير من الصراع الدائر الآن بين المكونين المدنى والعسكرى، هوية السودان القومية نفسها محل تنازع بين العروبة والأفريقانية، الأحزاب التقليدية الكبيرة كالاتحادى والأمة فقدت نفوذها القديم، وتعرضت لانشقاقات وخلافات بين فصائلها قلصت شعبيتها، والقوى الحديثة لم تستطع تكوين أحزاب لها قواعد جماهيرية، والأحزاب اليسارية فى سياقها العام لاتزال أسيرة النموذج الستالينى أو الناصرى أو البعثى، والقوى الثورية لا تمتلك بعد كيانا تنظيميا بالمعنى المؤسسى، والعناصر الانتهازية تلعب فى الكثير من الأحيان أدوارا مؤثرة وسط هذه الأزمات والصراعات.
السودان بكل هذه الحمولة من الأزمات يبدو وكأنه طائر عملاق يريد أن يحلق فى السماء بحرية، ولكن بأجنحة متعبة ومرهقة، ومع ذلك فإن السودان قادر دائما على تقديم المفاجآت، بل وصنع المستحيلات أيضا!

 

(الشروق المصرية)