مقالات مختارة

المسلمون ساهموا في تأسيس أوروبا الحديثة

1300x600

نلاحظ هذه الأيام أن كل انتخابات سياسية أوروبية على الصعيد المحلي ترتكز أساسا على ملف الإسلام والمسلمين في المجتمعات الأوروبية ويتسابق المرشحون في العواصم الأوروبية في تضخيم ظاهرة الوجود المسلم، وطبعا في تخويف الناس من ضياع شغلهم وحقوقهم أمام ما يسمونه «غزوة الإسلام لبلدان مسيحية آمنة!» ويكذبون ويدلسون التاريخ ويقلبون الحقائق لغرس مبدأ مزيف في عقول العامة من الناخبين وهو «أن المسلمين في أوروبا جالية أو أقلية..» وهذا الوهم المغروس في المخيال الجماعي هوالأصل التجاري لليمين العنصري الجاهل والمتعصب لكسب الانتخابات ضد اليسار واليمين المعتدل هنا وهناك في الدول الأوروربية!

ونعتقد أن بعض النزهاء من الباحثين والمؤرخين في أعرق المؤسسات العلمية يتصدون لهذه الأكاذيب بالحقائق الدامغة ومن هذه البحوث القيمة ما نشره  «تشاتام هاوس» في تقرير أعدته المؤرخة (إيميلي غريبل) سلطت فيه الضوء على أهمية دور الإسلام والمسلمين في تشكيل أوروبا. وتقول الكاتبة مريم محمود في ترجمة للتقرير: إنه عند مناقشة الدور التاريخي للمسلمين في أوروبا فإن معظم المؤلفين يركزون على المسلمين في الجزء الغربي من القارة الذين جاء الكثير منهم كمستوطنين مهاجرين من دول ذات أغلبية مسلمة وهوما ينتج عنه تعريفهم كـ«أجانب» وتضيف أن الكاتبة (إميلي غريبل) تأخذ مسارًا مختلفًا، حيث إنها ركزت في كتابها «المسلمون وصنع أوروبا الحديثة» على المسلمين الأصليين في منطقة جنوب شرق أوروبا الذين لا يزالون يتعرضون للهجوم العنصري المستمر رغم انتمائهم الفعلي لهذه المنطقة.

 وتشير الكاتبة إلى أنه في ظل التوترات السياسية الحالية والهجمات المستهدفة للمسلمين في البوسنة- التي لطالما كان العداء بين الأعراق والديانات فيها في أسوأ حالاته- تجدد سردية غريبل الدقيقة للمشهد الاجتماعي والسياسي في المنطقة الحاجة الملحة لعرض مثل هذه المواضيع.

ويعتبر عملها بمثابة مداخلة منعشة على جبهات مختلفة، حيث إنه يعارض الافتراضات النمطية التي أطلقها «المنطق الاستشراقي» الذي يُصّوَّر فيه المسلمون على أنهم أقلية عرقية بسيطة تعيش تحت الحكم الاستعماري.. وبدلًا من ذلك توضح غريبل ماهية هذه المجموعة من السكان الأصليين المهمشين الذين لا يمثلون كيانًا واحدًا متجانسًا. كما تسلط غريبل الضوء بالكشف عن تاريخ المنطقة وعن مدى قدرة المسلمين على التغيير لأنهم لم يكونوا مجرد رعايا سلبيين بل كانوا مواطنين فاعلين وكانت لهم مشاركتهم الحيوية في صياغة الأعراف الاجتماعية والبنى السياسية والأخلاقية والتشريعية وتعمل أطروحة (غريبل) كقوة معاكسة لخطاب صدام الحضارات المستمر منذ عقود منذ نظرية (صمويل هنتنجتن) والذي يصنف مسلمي المنطقة على أنهم غرباء عثمانيون يمكن أن يكونوا كبش فداء عندما تقتضي الحاجة لذلك، مبينة أنه رغم سعي الدول الأوروبية إلى العلمانية، إلا أن دور الدين لا يمكن التغاضي عنه أو تحويله إلى قضية «أقلية» بسيطة.

وُضعت هذه الحجة في ثلاثة أجزاء تاريخية بدءاً من انتقال السلطة بعد العثمانيين (1878-1921) إلى مشروع بناء الأمة اليوغوسلافية (1918-1941)، وصولًا إلى الإصلاح السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا (1941-1949).

وتبين الكاتبة أنه رغم ارتكاز معظم التحليلات التاريخية للمنطقة على تصرفات الدولة تجاه الأقليات المسلمة، إلا أن غريبل تشير إلى غياب مثل هذا النهج المشبع بالتحيزات المؤسسية من المصادر والأساليب ذاتها المستخدمة لفهمها، وبدلا من ذلك تحلل واقع المسلمين المعيشي وفاعلية عملهم كنقطة انطلاق لها، وقد تمكنت بشكل فعال من تجنب مثل هذه المغالطات.

ويلفت الكتاب النظر إلى المنهجية الثرية التي تستكشف غريبل بها الموضوع من خلال روايات عن كيفية مناورة المسلمين في المجال العلماني ثم الفضاءات الدينية مثل المدارس الدينية الإسلامية والأوقاف (صناديق المجتمع المحلي) والمفتين والعلماء والمحاكم الشرعية وهو ما يُظهر للقارئ مدى تأثير المسلمين وكيف أنهم قادوا مسار الديمقراطيات الدستورية في أوروبا في مفاصل تاريخية رئيسية دون التفريط في ثوابتهم الدينية.

ولا تكتفي غريبل بتأكيد أهمية مؤتمر برلين لعام 1878 الذي مكّن من ترسيم الحدود الإقليمية الجديدة في عالم ما بعد العثمانيين، بل إنها تحدثت عن مساهمة المسلمين في تشكيل المعاني الحقيقية لمبدأ المواطنة، وبالتالي فإنه لا يمكن الجزم بأن القيادة الإسلامية هي مجرد مجموعة سهلة الانقياد ومتجانسة، مشيرة إلى أنها كيان يحدد شكل مشروع المواطنة الأوروبية من خلال إعادة صياغة كل من القواعد العلمانية الإمبريالية، وكذلك الأحكام الفقهية الإسلامية لتلائم سياقها الفريد مقارنة ببقايا الحكم العثماني.

والفرق الأساسي الذي يضع هذا الكتاب بمعزل عن غيره من الأعمال المعاصرة المتعلقة بهذا الموضوع- كما تؤكد الكاتبة - هوأن غريبل تبرز العديد من التعقيدات داخل المذاهب الموجودة لدى الطوائف الإسلامية في المنطقة والعلاقات المتذبذبة بين علماء الدين التقليديين والمفتين والقضاة من جهة وبين سلطات الدولة العلمانية بشكل معقد في معظم فصول هذا الكتاب.

وتقول الكاتبة إنه في بعض الأحيان كان يُنظر إلى علماء الدين على أنهم يتعاونون مع الدولة لإعادة تثقيف المسلمين بما يتماشى مع الأنظمة السياسية الناشئة في المنطقة، حيث توضح أن المفتين سافروا في عام 1914 عبر جنوب صربيا للقيام بالعمل التبشيري (الدعوة) للسكان المحليين وتشجيعهم على دعم الدولة الصربية.. وبالمثل فقد طمأن القضاة في الجبل الأسود عام 1902 المسلمين المحليين بأن اتباع قانون الأرض سيضمن لهم «حقوقهم الشرعية» التي حددها رجال الدين المسلمون ويشرح الكتاب كيف وُلد التناقض بين الدول حين أُعطي دور بناء الأمة وتحرير المجتمعات الدينية المحافظة لرجال الدين التقليديين الذين سعوا إلى تفسير وتطبيق الإسلام بطريقة تمكنهم من الحفاظ على موقعهم في السلطة. كما توضح غريبل أنه بدلًا من أن يصبحوا أكثر ارتباطًا بالهياكل العلمانية للدولة والمجتمع- من خلال الحقوق المدنية والتجنيد والتمثيل السياسي- أصبح المسلمون في الأراضي العثمانية سابقًا أكثر ارتباطا بالإسلام، وفي الوقت نفسه زاد استعمال الخطاب الذي يشير إلى المسلمين كأقلية. وعلى النقيض من ذلك فقد كان المفكرون الإصلاحيون الليبراليون يقفون في مواجهة أنظمة الدولة، وجاءت في التسعينيات الحرب الأهلية التي قسمت يوغسلافيا إلى دول صغيرة على أساس الدين وأبرزها البوسنة والهرسك المسلمة وصربيا المسيحية وسار التاريخ الأوروبي في اتجاه جديد إلى اليوم.

 

(الشرق القطرية)