في تموز (يوليو) 2021، زار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مصنعا للحوّامات في روستفيرتول، وتفاخر بأنّ الجيش الروسي اختبر في سوريا أكثر من 320 نمطا من الأسلحة، وقال بالحرف: "إحدى هذه الحوّامات التي ترونها اليوم، هي نتاج العملية السورية". قبله، ولكن في حزيران (يونيو) 2018، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد سبق شويغو في تثمين الفوائد التي قدّمها الميدان السوري على سبيل اختبار الأسلحة الروسية: فرصة "لا تُقدّر بثمن"، قال بوتين، مشددا على أنّ استخدام السلاح في ساحات القتال الفعلية لا يعادل أيّ طراز من التدريبات أو المناورات.
وقبل أيام من انطلاق الزحف العسكري الروسي نحو عمق أوكرانيا، أشرف شويغو على مناورات روسية بحرية في المياه السورية، وبعض القطع المشاركة توجّب أن تتحرّك بالفعل نحو البحر الأسود للانخراط في العمليات القتالية الفعلية ضدّ أوكرانيا.
هنالك اعتبارات، لا عدّ لها ولا حصر ربما، تؤكد الفوارق الحاسمة بين التدخل العسكري الروسي في سوريا، والاجتياح العسكري الروسي الراهن في أوكرانيا؛ وتلك اعتبارات تتجاوز الأبعاد التاريخية والجيو-سياسية والأمنية والثقافية، ثمّ النفسية والذاتية عند بوتين شخصيا، إلى الفوارق بين شخص الرئيس الأوكراني المنتخب فولوديمير زيلينسكي (على علاته، غير القليلة كما يتوجب القول)؛ ومجرم الحرب الصغير التابع بشار الأسد، وبطانة الاستبداد والفساد، في سوريا. غير أنّ واحدا من جوانب التقاطع، أو التطابق بدرجة عالية، هي حكاية اختبار الأسلحة الروسية الحديثة، عالية التكنولوجيا، “فوق الصوتية” كما في الرطانة العسكرية، المحاذية لأسلحة التدمير الشامل في أجيالها الكلاسيكية والمحدّثة؛ التي، على وجه الدقة، كانت وتظل موضوعا للتفاخر لدى كبار الجنرالات الروس، وعند بوتين شخصيا.
وليس الأمر أنّ الجيش الروسي، في عهد بوريس يلتسين قبل بوتين، لم يمتلك الفرصة أو الميادين لاختبار أجيال السلاح الروسي الجديدة فعليا؛ فقد كانت تجارب شيشنيا وجورجيا وشبه جزيرة القرم قد تكفلت ببعض هوامش التجريب، وأسفرت عن إدخال بعض التغييرات، التي ظلت مع ذلك محدودة. فارق الميدان السوري تمثّل، أوّلا، في ضعف الخصم أو حتى عدم وجوده عمليا أحيانا؛ الأمر الذي أتاح المزج بين اشتراطات الاستخدام القتالي الميداني والنيران الحيّة، ومقتضيات الاختبار الآمن الذي يقارب المناورة في بعض الحالات. صحيح أنّ مقاتلات تركية (إف-15 أمريكية الصنع) تمكنت من إسقاط مقاتلة سوخوي-24 روسية في سماء سوريا، خريف 2015 بعد أسابيع قليلة على التدخل الروسي، إلا أنّ الواقعة لم تندرج في سياق اختبار أداء الطائرة الروسية، كما أنّ هذه المقاتلة لم تكن في عداد الصنوف الجديدة التي عكف الجيش الروسي على تجريبها في سوريا.
الأسلحة الروسية التي تُستخدم في سوريا إنما تجرّبها موسكو تحت احتماليات فريدة من الاحتكاك مع صنوف الأسلحة الأطلسية المختلفة، والأسلحة الإيرانية، وكذلك المقاتلات الإسرائيلية.
جانب ثانٍ يسبغ أهمية خاصة على حقول الاختبار السورية، لعلها استثنائية وفريدة أصلا، هو أنّ الأسلحة الروسية التي تُستخدم في سوريا (في سماء الساحل تحديدا، ومناطق حمص وحلب وإدلب بصفة خاصة)، إنما تجرّبها موسكو تحت احتماليات الاحتكاك مع صنوف الأسلحة الأطلسية المختلفة، مباشرة عبر التحالف أو الجيش التركي في الشمال، من جهة أولى؛ والأسلحة الإيرانية، الصاروخية والمضادّة للدروع أوّلا، من جهة ثانية؛ وكذلك المقاتلات الإسرائيلية التي تقوم بعمليات قصف شبه منتظمة في مختلف المناطق السورية، من جهة ثالثة.
وما يشعله بوتين اليوم في أوكرانيا، قد لا يكون جولة أولى في الحرب الباردة الثانية، لكنه ليس البتة بعيدا عن التطبيق العملي لحذافير عديدة في خطبة ميونخ 2007، لجهة كسر نظام القطب الواحد واستئناف الامبراطورية
هذه حال تمنح سيرورات الاختبار الروسية قيمة خاصة يندر أن تتوفر في الصيغة الميدانية المباشرة، لأنها أيضا تدور في إطار ثلاثة أصناف من ترجيح المواجهة: 1) مع خصم (متَّفَق معه ضمنا) هو التحالف والسلاح الأطلسي؛ و2) شريك/ صديق ميدانيا (لا تغيب عنه المنافسة وبعض الخلاف)، هو السلاح الإيراني؛ و3) حليف غير مباشر (وأطلسي غير معلَن رسميا)، هو السلاح الإسرائيلي.
وحال التشابك هذه، التي وحّدت سلسلة من المصالح المتطابقة تحت مظلات عجيبة من الاختلافات الشكلية والسياسية والتحالفية، أتاحت للولايات المتحدة والحلف الأطلسي وغالبية الحكومات الغربية أن تسكت عن اختبارات أكثر من 320 سلاحا روسيا جديدا، جرى تجريبها تباعا في سوريا منذ ابتداء التدخل الروسي خريف 2015.
وقد يكون صحيحا أنّ السكوت ذاك اقترن، عند مَن امتلك الوسيلة، بمراقبة لصيقة لنتائج التشغيل الروسي لجديد هذه الحوّامة أو تلك الطائرة المسيّرة؛ لكنّ أيّا من المراقبين، عن كثب أو عن بُعد، لم يتخذ من إجراءات الحدّ الأدنى بصدد واحد من أقذر الخيارات في الصناعات العسكرية: التجريب الحيّ على البشر المدنيين، في المشافي والمدارس والمخابز والأسواق الشعبية. حينذاك سكتت واشنطن وبروكسيل ولندن وباريس وبرلين، هذه العواصم إياها التي تجأر اليوم بالصراخ (وبعض النحيب كذلك!) احتجاجا على الاجتياح الروسي في أوكرانيا، وعلى تطبيق ما اختُبر ضدّ أطفال ونساء وشيوخ سوريا، ولكن في كييف وخاركيف وماريوبول.
وخلال دورة 2007 لمؤتمر ميونخ الشهير حول قضايا الأمن والدفاع، أصاخ المندوبون السمع، والكثير منهم صفّق، خلال خطبة بوتين التي لا تقلّ شهرة؛ ومن غرائب الصدف أنّ ذكراها الـ15 تمرّ هذه الأيام تحديدا، على وقع قذائف الجيش الروسي وعذابات الشعب الأوكراني. وكيف يُنسى تركيز الرئيس الروسي على القول بأنّ مشكلة الأمن الدولي أقرب صلة إلى واقع الاقتصاد العالمي ومشكلات الفقر والحوار بين الحضارات، منها إلى الاستقرار السياسي أو العسكري؛ أو الامتناع عن اقتباس لينين أو ستالين أو الامبراطورة كاترين، كما فعل مؤخرا في خطبة الزحف على أوكرانيا، والعودة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق فرنكلين روزفلت، بصدد الحرب العالمية الثانية: “أينما يُنتهك السلام، فإنّ العالم كلّه يقع تحت التهديد”. الغرب صفّق، لكنه تنبّه أيضا إلى المرارة الدفينة في رثاء بوتين للاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وهجاء تمدّد الحلف الأطلسي نحو رومانيا وبلغاريا، والتلويح بأنّ الآلة العسكرية الروسية في تطوّر حثيث.
ولقد عقد بوتين اجتماعا دراماتيكيا مع أركان القيادة العسكرية الروسية، وأبلغ العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه القوى النووية الأخرى في العالم أجمع. وفي تصريحات ساخنة قال؛ إنّ بلاده لن تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعليا خلال السنوات القليلة القادمة: “أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب”.
وفي الخلفية كان ثمة تصريح جورج روبرتسون، الأمين العام الأسبق للأطلسي، بأنّ الحلف بات يضمّ دولا تمتدّ مساحتها من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستوك شرق روسيا. وفي خلفية ثالثة كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، قد اعتبر أنّ الحرب الباردة انتهت الآن فقط، مع صدور “إعلان روما” الذي تضمّن تشكيل المنتدى الأمني الجديد، بعضوية دول حلف شمال الأطلسي الـ19، بالإضافة إلى روسيا: أيّ إنها لم تنتهِ على يد جورج بوش الأب والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، بل جورج بوش الابن ونظيره فلاديمير بوتين!
وما يشعله بوتين اليوم في أوكرانيا قد لا يكون جولة أولى في الحرب الباردة الثانية، لكنه ليس البتة بعيدا عن التطبيق العملي لحذافير عديدة في خطبة ميونخ 2007، لجهة كسر نظام القطب الواحد واستئناف الامبراطورية الروسية بوسائل الغزو العسكرية ذاتها التي انتبذها بوتين قبل 15 سنة؛ مع فارق حاسم: لقد اختبر في سوريا، وها إنه اليوم يحدّث ويستحدث في أوكرانيا، ليس أقل”!