آراء ثقافية

كيف تكون حرّا داخل الزنزانة: لنفكّر مع بول ريكور؟

فقد بول ريكور والديه وهو في المهد- جيتي

يوجد دائما ذاك الوصيّ الذي يبني جسورا بين الفيلسوف وعامّة الناس. إذ يقطع العلاقة بين الطرفين. فمهمة هذا الوصيّ: تعجيز المتلقّي لمعارف أيّ فيلسوف ومدّه بتفاسير يصعب تشفيرها.

لاحظت ذلك أثناء قراءة بعض الكتابات عن بول ريكور بمناسبة ذكرى ميلاده التي كانت في السابع والعشرون من شهر شباط/ فبراير. فهذه الكتابات التي لها دور الوساطة بين الفيلسوف أو المفكر وقارئه يبدو أنّها تزيد من تعقيد المسائل الفلسفيّة في حين أنّه من حق الانسان غير الأكاديمي وغير المتعلم الاستفادة مما قدمه الفلاسفة عبر التّاريخ. فالنظريات محاولات للتغيير والتقديم: فكيف يحرم منها غير المتعلمين وغير الأكاديميين وغير النخبة المزعومة؟

إنّ المبادرة بمد جسر التّواصل بين المفكر وعامّة النّاس هي في الأصل دعوة هؤلاء للتّفكير ولو على طريقتهم البسيطة. يجب أنّ نتعلّم التفكّر مع بعض. وليس بالمستحيل على كاتب أن يقدم نظرية أو فلسفة بأبجديات عامّة الناس.

فالخطوات الأولى لدفع الإنسان للتفكير تبدأ من عمليّة عكسية تبدأ من عالمه، من مكتسباته ومن استعداداته للتّلقي. لا يمكن أن يكون نصا غارقا في المفاهيم المعقدة قادرا على أن يحرك داخل الإنسان العادي رغبته في التفكير والفعل...

من بين هؤلاء الفلاسفة الذين نحتاج إلى بسط فلسفتهم لجميع الناس وبطريقة يفهمها الجميع ليستخلص منها المعنى: ما قدّمه بول ريكور... وبول ريكور )1913/2005 ( فيلسوف فرنسيّ الجنسية. فيلسوف التأويلية والمعنى الذي يعرف أيضا على أنه عالم إنسانيّات. له العديد من الكتب والمقالات في مجالات اهتماماته كالأنثروبولوجيا. كتب عن الإنسان في أبعاد مختلفة. فساءل إرادته في طرح بين الإرادي واللاإرادي. تكلم عن فلسفة الشرّ وفلسفة الإنسان الخطّاء في إطار دائرة الإرادة واللاإرادة. وكتب عن الذاكرة والتّاريخ. وغاص في عمق الوجود من خلال قضايا الإنسان في علاقته بهذا الوجود.

سئل بول ريكور: هل يمكن لفيلسوف أن يفكر داخل مقهى؟" فأجاب :" الفلسفة ليست حكرا على أحد، الفلسفة للجميع وفي كل الأمكنة ولكل الناس وكل فئات المجتمع." لأن الفلسفة سؤال مسار البحث عن المعنى للإنسان والوجود. كلنا يسأل عن الأنا وعمن يكونه هذا الانا وهذا الآخر. الفلسفة تأمل في الحياة. وعي بهذه الحياة . إرادة الحياة بالفعل.

العديد من الحوارات المسجلة والمنشورة على اليوتيوب تكشف قدرة هذا الفيلسوف على مخاطبة الناس بلغة مبسطة ولكن حين تقرأ عنه لا تصلك سوى تعابير عقلانية جافة جدا وخالية تماما من الأحاسيس وهو ما يتناقض مع الشخصية الحقيقية لريكور.

يخاطب بول ريكور المتلقي بكل حواسه بل بكل رهافة هذه الحواسّ مثلما يتعامل بالضبط مع أدقّ التفاصيل في حياته ويختلق منها سببا للنّجاح. كيف حول "تراجيديا" حياته منطلقات للتفكر والتجريب؟ لنتتبّع سيرته ونختزل نقاط قوّتها كالتّالي:


أولا: كيف انتصر على الموت؟

لقد فقد بول ريكور والديه وهو في المهد. فارقته أمّه بعد ستّ شهور من ولادته. وتوفّي والده خلال الحرب العالمية الأولى وهو لم يتجاوز سنته الثانية. فكفلته عمّته مع شقيقته الوحيدة والتي ستموت أيضا في العشرين من عمرها ليظل وحيدا مع العمّة.

مع كلّ حالة موت تندلع من ريكور حالة حياة. إنّه يحيا بالكتب.يلتهم هذه الكتب. يسكن زاويته المفضّلة يقرأ ويتأمّل إلى أن اشتدّ عوده وصار لا يقرأ فقط ولا يتأمّل فقط وإنّما أيضا يتفكّر...ومع القراءة خطّ أيضا مسيرة أكاديميّة ناجحة جدا. من الماجستير إلى الدكتوراء إلى التدريس في أهمّ الجامعات كالسوربون.

وحالات الوفاة المتكرّرة داخل عائلته دفعته أكثر للحياة بالحسّ والفكر والفعل والإنتاج حتى أنّه كان يقول دائما:" لماذا نفكّر في الموتّ، الأولوية للحياة...لنفكّر في الحياة." وقال أيضا في حديثه عن الموت:" اننا نموت صغارا جدا أو كبارا جدا ولكن لن نموت أبدا في الوقت الذي يناسبنا ..الموت ليس عقلانيا. يجب إذن أن نفكر في الحياة وليس في الموت."

أشار مازحا في أحد حواراته التلفزيونية: "أحب أن يتذكرني الناس في صورة المبتهج بالرغم من صورة الأستاذ الصعب والجاد."

ثانيا: هل يمكن للإنسان أن يكون سجينا وحرّا في الآن ذاته؟

سجِن بول ريكور لمدّة خمس سنوات بعد سنة واحدة من انطلاق الحرب العالمية الثانية ولم يتمّ الإفراج عنه إلاّ مع نهايتها أي سنة خمس وأبعون وتسعة مئة وألف. ولكن كيف تعامل ريكور مع السّجن؟ لقد انتصر وخلق لنفسه مساحة من الحرّية بالكتابة. لم ينتظر الإفراج وإنّما دفع حياته نحو التحرّر بالإبداع. ففي السّجن تعرّف على كتابات كارل ياسبرز فلم يغادر السجن الا وقد ألف كتابا عن هذا المفكر. نعم يمكن للإنسان أن يكون سجينا وحرّا.

ثالثا: كيف يكون للإنسان معنى بوجوده من خلال وجود الآخر؟

بدل أن يواصل الفرد منّا في اتّهام الآخر، عليه أوّلا أن يبدأ من ذاته فيسألها ويسائلها. ومن ثم يدخل في حوارات مع الآخر لإنتاج المعنى. هكذا يفكّر بول ريكور في أسلوب الحوار والتحاور مع الآخر.ربما لم يفكر بول ريكور في المجال العمومي بالمفهوم الهابرماسي ولكنه تحدث، دون توصيفات ومسميّات، في عمق الديمقراطية والفضاء العمومي من خلال الحوار بالفلسفة. والحوار لا يكون ناجحا الا بتقدير الذات والتقدير هو أعلى درجات احترام هذه الذات وتحويلها من مجرد كائن ثابت في مكانه وزمانه إلى ذات فاعلة قادرة على كتابة تاريخها، حسب ريكور. فيجّرد ريكور كل زمن لا ينتج من خلاله الإنسان معنى لا قيمة له.

خامسا: أي علاقة بين الأستاذ وطلبته؟

درّس بول ريكور في جامعة السوربون ورغم أنه استقال من عمادة الكلّية بسبب تهوّر أحد الطلبة، فقد ظل يعبّر عن استيائه من الانضباط والعلاقة العمودية التي كانت بين الأساتذة والطلبة ليعبر لاحقا أنه من بين الأشياء التي ندم عليها عدم استغلال أكثر وقت مع طلبته. لقد كان أستاذا جادا. وكان يحفز طلبته على التفكير بداية من الخطوة الأولى وهي القراءة. فكان يفرض عليهم قراءة عشر كتب وقرابة عشرين مقال عن موضوع كل درس.

سادسا: ماهي الأفكار التي على الانسان تجنّبها؟

يدعو بول ريكور دائما إلى قتل هاته الأفكار والتي يختزلها كالتالي: "لا يجب القول أنه لا أعداء لي. فلا وجود لإنسان لا أعداء له ولا أحد يكرهه ..."، ويرى ريكور أن الشخص الذي يفكر بهذه الطريقة هو صاحب شخصية نرجسية. كما يدعو ريكور إلى قتل فكرة عدم الاعتراف بالشيخوخة وفي المقابل البدء بتقبلها. ومن ثمّة تقبّل الحياة حتى يموت المرء مبتهجا.

سابعا: كيف تكسر الصنم؟

في كتابه "النقد والقناعة" كشف بول ريكور عن حالة الصراع التي يعيشها مع لاكان وكيف تعامل هو معه لما قام لاكان بحذف نص محاضرة نقدية لبول ريكور لأنه انتقد خطاب فرويد وقال عنه إنه خطاب ينقصه التجانس، في حين أن ريكور جعل: "انعدام التجانس هذا لصالح فرويد ولم اعتبره نقصا في الاصطلاح أو الوضوح الإبيستمولوجي، بل رأيت فيه ممارسة مقصودة للغة ملائمة لموضوعها وهو الموضوع الذي يوجد عند تمفصل القوة واللغة."

وتحدّث ريكور عن دروسه في صفّ لاكان فقال: "عشت هذه الدروس كواجب مفروض ومرهق، كإحباط فظيع ألزمت به نفسي بانتظام لأنه كان لدي دائما الانطباع بأنه سيقول شيئا مهما لم يقل بعد، وبأن ذلك سيقال في المرة المقبلة، وهكذا. كان يتقن كامل الإتقان فن الترقب وكنت أجد ذلك لا يطاق عنده. كان ترددي على هذه الحلقات، مهما كلف الأمر، امتحانا حقيقيا مع الشعور بالاضطرار ولكن أيضا بإحباط لا يتصور مداه."

ويضيف: "لازلت أتذكر قولي لزوجتي في إحدى الأمسيات عند رجوعي إلى المنزل: لقد عدت من الدرس ولم أفهم شيئا. في هذه اللحظة بالذات رن الهاتف، كان لاكان هو الذي يطلبني وسألني على الفور: كيف وجدت خطابي؟ أجبته: لم أفهم منه شيئا. فأغلق الخط في وجهي بفضاضة. كنت أحس بكثير من التهديد من قبله، صرت خجولا، وكان لدي الشعور بأني مهدد بالإقصاء في أية لحظة، فضلا عن أن جو الإجلال السائد في الدرس كان يثير الدهشة، إذ لم يكن في الإمكان تصور أن أحدهم قد يستوي واقفا ليقول بأنه لم يفهم شيئا أو بأن ما قيل كان سخيفا… كنت أعيش هنا نقيض ما عشته في حلقة الدرس بشكلها الأمريكي."

كان ذلك بول ريكور الإنسان الذّي حوّل تجربته الإنسانية الفرديّة إلى تجربة كونيّة.