مقالات مختارة

فرنسا ومبضع "ميديابارت": النكش مقابل الطمر

1300x600

حكومة إليزابيث بورن الجديدة، التي عيّنها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون بعد إعادة انتخابه، لم تتلقَّ ضربة الإرباك النجلاء الأولى من أيّ أطراف المعارضة، وهم كثر: لا من تجمّع اليسار الذي بات يقوده جان ـ لوك ملنشون ويطمع في حيازة أغلبية برلمانية في الانتخابات التشريعية، الشهر المقبل؛ ولا من مارين لوبين، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد ومنافسة ماكرون الفاشلة في الانتخابات الأخيرة؛ ولا من اليمين الديغولي، الذي يلعق جراح هزيمة نكراء ويعاني من التشرذم واحتمالات التفكك؛ ولا من مجموعات الخضر المختلفة، غير المنضوية في ائتلاف ملنشون؛ ولا حتى من التجمعات التروتسكية، على تباين خطوطها وبرامجها.

 

هذه كلها لم تتأخر البتة في معارضة حكومة بورن، بالطبع، كلّ على طريقته وأسلوبه وأجنداته؛ وتفاوتت الحملات بين استهداف الشخوص، بورن نفسها ورئيسها ماكرون وهذه أو هذا من الوزيرات والوزراء؛ أو نبش دفاتر الماضي عند مَن غادروا القوارب الموشكة على الغرق للالتحاق بركب ماكرون، أو عند من يحمل بشرة غير بيضاء وغير شقراء، وسوداء أو سمراء، لأنه أيضاً سليل مستعمرات فرنسية سابقة أو حامل أفكار «ما بعد استعمارية» تراجع الصفحات الأبغض في تاريخ فرنسا…


لكنّ الضربة النجلاء، ولعلّ الصفة هذه تليق تماماً بالموصوف، جاءت من موقع «ميديابارت» الإخباري الإلكتروني المستقلّ، ضمن تقرير صاعق عن داميان أباد وزير التضامن وشؤون المعاقين المعيّن لتوّه في حكومة بورن، والملتحق بصفوف توليفة ماكرون قادماً من حزب «الجمهوريين» الذي يزعم الانتماء إلى اليمين التقليدي كما تولاه في الجمهورية الخامسة أمثال شارل ديغول وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي. التقرير نقل تفاصيل أوردتها امرأتان اتهمتا أباد بإجبارهما على إقامة علاقات جنسية، سنة 2010 و2011، وذكرت إحداهما أنها تقدمت بشكوى إلى الشرطة، ولكن تمّ حفظها ولم تقترن بإجراءات تحقيق معتادة؛ وأمّا السبب في خروج الضحيتين إلى العلن اليوم فهو الإعراب عن الاحتجاج إزاء تسمية أباد في منصب جمهوري رفيع، بما يعني مكافأته أو تكريمه. الوزير سارع إلى النفي التامّ والقطعي، مشيراً كذلك إلى أنه (هو المعاق المصاب بمرض اعوجاج المفاصل) عاجز فيزيولوجياً عن ممارسة الفعل الجنسي من دون مساعدة شريكته.


ردّ فعل الحكومة كان ذكياً ومنطقياً كما يصحّ القول، إذْ أعلنت بورن أنها لم تكن على علم بالواقعة ولا بالشكوى عند تسمية أباد، والحكومة تشجع جميع النساء ضحايا الاعتداءات المماثلة على كسر الصمت ولسوف يُستمع إليهنّ بالتأكيد، كما أنّ القضاء هو وحده الجهة المخوّلة والملزَمة بالتحقيق وتبيان الحقائق، والوزير في نهاية المطاف يتمتع مثل أيّ مواطن فرنسي بالقاعدة القانونية التي تقول إنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

 

لكنّ الضرر كان قد وقع، على مستويات متعددة ولدى الأطراف المتربصة كافة: منتقدو قصر الإليزيه، الذين اتهموا ماكرون وفريق مستشاريه بإخفاء الواقعة عن رئيسة الحكومة، أو حتى خداعها وتضليلها؛ و«الجمهوريون» الذين سبق لإحدى الضحيتين أن كاتبتهم مشتكية على أباد حين كان يتزعم كتلتهم النيابية فلم يردوا عليها، وجدوا سانحة للثأر منه لأنه غادر صفوفهم؛ وملنشون جاءته الفضيحة على طبق من ذهب، فانقضّ على رئيسة حكومة يحلم بأن يحلّ محلها مطلع تموز (يوليو) المقبل؛ ولوبين لا تحتاج أصلاً إلى ذريعة كي تشتم الجميع، بلا استثناء.

محزن أنّ التقاليد الاستقصائية غير شائعة، حتى ضمن حدودها الدنيا، في صحافة العالم العربي؛ ليس بسبب الافتقار إلى صحافيين حاملي مدمّات، أغلب الظنّ، بل لأن شيمة غالبية وسائل الإعلام العربية هي الطَمْر وليس النكش.


وهذا الضرر الذي لحق بالحكومة الجديدة، والأحرى التذكير بأنه أصاب ماكرون نفسه أوّلاً وربما قبل بورن وأكثر منها، يسجّل لموقع «ميديابات» المستقل ضربة معلّم جديدة بارعة، تُضاف إلى سجلّ عريق من كشف سلسلة من الفضائح المالية والسياسية والأخلاقية؛ الأحدث بينها كانت تورّط الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي مع دكتاتور ليبيا معمّر القذافي؛ والأخرى المسماة «فضيحة بيغماليون» التي انطوت على استعانة ساركوزي بشركة علاقات عامة لتزوير فواتير وحسابات تتجاوز سقف النفقات المحددة في الحملات الانتخابية؛ وفضيحة فرنسوا فيون بصدد شبهات إهدار المال العام ومنح زوجته امتيازات مالية، وهي التي قوّضت آماله في الترشح لرئاسة فرنسا؛ وفضيحة ألكسندر بينالا المستشار الأمني المقرّب من ماكرون، في اعتدائه على متظاهرين وفي إبرام عقود مع مستثمر روسي مثير للجدل؛ وسواها فضائح أخرى كثيرة.


وقبل قرابة عقد، وعلى امتداد أربعة أشهر ونيف، ظلّ موقع «ميديابارت» يلحّ، ويقدّم الدليل تلو الدليل، على أنّ وزير الموازنة الفرنسي يومذاك، جيروم كاوزاك، كان خلال سنوات طويلة يمتلك حساباً مصرفياً سرّياً في سويسرا، هدفه التهرّب من الضرائب؛ ثم أغلقه سنة 2010، ونقل ودائعه إلى مصرف في سنغافورة. وخلال الأشهر ذاتها ظلّ كاوزاك ينكر ويكذّب، أمام رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة؛ وتضامن معه عدد من زملائه الوزراء، وأصدقائه في «الحزب الاشتراكي» الفرنسي؛ كما تعاطف معه عدد من الصحف والصحافيين، ممّن وجدوا أنّ «ميديابارت» تغالي في طرائقها.


وحين أخذ التحقيق القضائي الرسمي، في فرنسا وسويسرا، يطبق الخناق على كاوزاك، اضطرّ إلى تقديم استقالته من الوزارة، أوّلاً؛ ثم لم يجد مفراً، في نهاية المطاف، من التقدّم إلى القضاء بنفسه، والاعتراف أنه بالفعل كان يمتلك ذلك الحساب.


وإذا كانت تلك القضية مجرد ملفّ يُضاف إلى عشرات ملفات الفساد، هنا وهناك في العالم؛ فإنها، في جانب جوهري آخر، تخصّ سلطة الصحافة عموماً، وصحافة التحقيق خصوصاً، في الديمقراطيات الغربية. وبين دروسها البليغة أنّ ابن المهنة، الصحافي ذاته، يمكن أن يكيل بمكيالين في الحكم على مادّة تحقيق محرجة أو متفجرة: يعارض، سياسياً وإيديولوجياً، الوزير كاوزاك ولحزبه؛ ولكنه «يستهجن» المضيّ أبعد مما ينبغي في نشر الغسيل القذر، للشخص ذاته. ولم تكن مصادفة أنّ «ميديابارت» كانت المبضع الذي تجاسر على تشريح القضية، لأنها أوّلاً ليست موقعاً مستقلاً فقط، بل هي أيضاً «منشقّة» عن تقاليد التيار العريض لمؤسسات الصحافة الفرنسية.

 

وكان إدفي بلينل، مدير الموقع، قد أطلقه في سنة 2008، بعد أن استقال من رئاسة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة بسبب خلاف تحريري وسياسي مع كبار مالكي الأسهم فيها. ولأنّ اشتراكات القراء هي وسيلة التمويل الوحيدة، تمكن الموقع من حيازة هامش حرّية واسعاً في فتح ملفات الفساد بصفة خاصة.


وفي عام 1906 كان ثيودور روزفلت، الرئيس الأمريكي السادس والعشرون، قد نحت عبارة طريفة، فظّة بعض الشيء، في وصف طراز خاص من الكتابة الصحافية: «النكش في الطين « Muckraking؛ أو، بمعنى أدقّ: تقليب القاذورات، وإظهار ما هو مستور من أوساخ وقبائح. واستمد روزفلت ذلك التوصيف من شخصية حامل المِدَمّة، أداة تسوية العشب وتقليب التربة والسماد، في رواية الإنكليزي جون بنيان «رحلة الحاج» 1678؛ فقال: «إنه رجل ليس في وسعه أن ينظر إلا إلى أسفل، والمِدَمّة في يده؛ وقد بُورك بتاجٍ سماويّ لكنه لم يكترث حتى بإبصار التاج، وظلّ يشغل نفسه بنكش القاذورات في الأسفل».

 

والحياة، وتطوّر تقاليد الكتابة الصحافية وأخلاقياتها، تكفلت بتطهير التعبير من مضمونه السلبي الفظّ، وبات على العكس صفة حميدة لذلك الصحافي ـ المحقق، الذي يكشف أستار قضية سياسية أو اجتماعية أو مالية تمّ إخفاؤها عن المجتمع، بتواطؤ من هذه السلطة أو تلك.
محزن، بالطبع، أنّ هذه التقاليد الاستقصائية غير شائعة، حتى ضمن حدودها الدنيا، في صحافة العالم العربي؛ ليس بسبب الافتقار إلى صحافيين حاملي مدمّات، أغلب الظنّ، بل لأن شيمة غالبية وسائل الإعلام العربية هي الطَمْر وليس النكش!