آراء ثقافية

قرين دستويفسكي

للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي

صدرت رواية المزدوج "The Double" عام 1846، وهي الرواية الثانية للكاتب الروسي الغني عن التعريف فيودور دستويفسكي. لم تحظ هذه الرواية بالشهرة الكافية إلا أنها واحدة من أهم أعماله، وقد وصفها فلاديمير نابوكوف بأنها أعظم كتاب لدستويفسكي.

تصور لنا هذه الرواية حياة موظف حكومي يدعى بتروفيتش غوليادكين انقلبت حياته حين ظهر فيها شخص يشبهه تمامًا. يصل هذا الشبيه ويحتل منزله ومكانه في العمل. لا يندهش أحد من زملائه في العمل من هذا التشابه بين الرجلين، وكذلك خادمه. بل يتعامل الجميع معه باعتباره شخص يشبه غوليادكين لا أكثر. بالمقابل نرى تداعيات ظهور هذا الشبيه على هذا الموظف البائس الذي تنهار حياته بالكامل.

لا يمكن فهم هذه الرواية دون فهم معنى القرين "The Double" في علم النفس، وكيف تم توظيف القرين كتقنية كتابية في الأدب. فما هو القرين؟

القرين: هو ظهور أو تجل شبحي لحالة داخلية تحدث انقسامًا داخل الذات. إنه مفهوم مركب، قد يعني الذات الثانية، أو الوجود الفعلي الثاني، أو الممكن، خلال الزمن نفسه الذي تعيشه الذات الأولى، وأحيانًا يكون سابقًا لها، أو لاحقًا زمنيًا، كما في قصص التناسخ والحلول والمسوخ، وقد يعني الشبيه الذي هو توأم زائف، وقد يكون شخصًا لا يشبه الذات من الناحية الخارجية، لكنه يجسد حقيقتها الداخلية العميقة.(1)

ترتبط فكرة القرين بالتخاطر الذهني بين شخصين، بالإضافة لتكرار المواقف، وامتلاك الوجه نفسه، أو السمات الشخصية، أو تكرار الأسماء كما في قصة "وليم ولسون" لإدغار آلن بو. كما ترتبط بقصص التحول التي إما أن ترتبط برغبات حلمية لا يمكن أن تتحقق بالواقع، أو ترتبط بهروب ورعب لا يمكن أن تقاوم إلا من خلال هذا التحول.

نجد فكرة القرين كثيرًا في الأعمال الأدبية القديمة والحديثة، ومن أهم هذه الأعمال رواية دوستويفسكي التي نحن بصدد مناقشتها، ورواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد، وقصة "وليم ولسون" لإدغار آلن بو، ورواية "الدكتور جيكل والمستر هايد" لستيفنسون، ورواية جوزيه ساراماجو "الآخر مثلي". أما في الأعمال السينمائية فنجد فكرة القرين في كثير من الأفلام العالمية، نذكر منها: The Double Life of Veronique 1991, Lost highway 1997, Fight Club 1999, Black Swan 2010.

تظهر رمزية القرين في الشعر، متخذة تجليات عديدة، منها الشبح والآخر والاسم والمرآة، وكلها تجليات لا تفارق الثنائية نفسها التي ينعكس فيها الوعي على نفسه، وذلك في تجاوب أصداء السياقات التي انتقلت من شعر الحداثة الغربية إلى شعراء الحداثة العربية"(2). وقد استخدم كثير من شعراء العصر الحديث رمزية القرين، منهم خليل حاوي، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، وأمل دنقل.

قرين دستويفسكي:

تبدو الغرابة في أطوار بطل دستويفسكي منذ بداية الرواية، التي تبدأ بوصف يوم عادي لهذا الموظف الذي كان يجهز نفسه ليوم جديد. يبدو غوليادكين مضطربًا لأتفه الأسباب، ويحاول الاختباء من نظرات زملائه الذين رأوه في عربة فخمة. تزداد الشكوك حول صحة غوليادكين النفسية والعقلية حين يقرر فجأة زيارة طبيبه دون داع لذلك. يجلس أمام الطبيب دون أن يعرف ما الذي دفعه لهذه الزيارة، ونرى طبيبه مستاء جدًا من زيارته التي يتضح لنا أنها ليست الأولى، فهذا الرجل يأتي ليزعج طبيبه بكلام غير مترابط حول نظرته للحياة وحول وجود أعداء له يشعرونه بالتهديد.

وعلى الرغم من صبر الدكتور ومحاولته لفهم مبتغى غوليادكين إلا أن الأخير يستمر بالاستطرادات غير المفهومة، وتكرار نفس الكلام حول استقامته وكرهه للطرق الملتوية، وحول وجود أعداء يحاولون القضاء عليه.

يظهر شبيه (غوليادكين) في الفصل الخامس من الرواية المكونة من ثلاثة عشر فصلًا. وقد كانت المرة الأولى لظهوره عقب ليلة سيئة أقحم نفسه فيها لحفل راقص في منزل موظف كبير في المكان الذي يعمل فيه.

بعد محاولات كثيرة لاقتحام المكان ينتهي الأمر به مطرودًا. في تلك الليلة البائسة اجتمعت كل العوامل لتدميره، وبينما كان يهرول تحت المطر لعله يجد طريقة يهرب فيها من نفسه، فبعد ما حدث معه تمنى لو يتحول إلى رماد ويختفي للأبد. إلا أن ذاته التي كان يهرب منها، والتي يخجل فيها تجلت له وظهرت كشبيه له اسمه أيضًا غوليادكين.

"كان السيد غوليادكين قد عرف رفيق ليلته حق المعرفة. لم يكن رفيق ليلته شخصًا آخر غيره... إنه السيد غوليادكين نفسه. إنه غوليادكين آخر، لكنه يشبهه تمامًا، لنقل باختصار إنه من يمكن أن نسميه بـ"الصنو"، صنو السيد غوليادكين بكل ما تحمل الكلمة من معنى..."(3)

يظهر الشبيه بعدها في مكان عمله كموظف جديد مما يهز أركان غوليادكين ويجعله يشك في حقيقة ما يراه. ورغم سؤاله لزملائه عن هذا الموظف الجديد ولفت انتباههم للتشابه في الوجه والأسماء إلا أنهم لا يرون ما يستحق الاهتمام في هذا الأمر.

يتحول واقع غوليادكن لجحيم بسبب هذا الشبيه الذي يظهر أحيانًا كتابع مسكين يطلب رأفة وعطف غوليادكين، وأحيانًا أخرى يبدو كعدو جاء ليدمر حياته ويكيد له في مكان عمله. يظهر شبيهه في أماكن متعددة ويهمس بأذنه، أما في مكتب العمل فيتجاهله ولا يرد على حديثه مرة، ويحرجه ويسخف من آرائه مرة أخرى. تزداد حالة غوليادكين سوءًا وتنتهي الرواية بوضعه في مستشفى الأمراض العقلية.

يشكل شبيه غوليادكين كل ما يخشاه، لقد انقسمت ذاته وظهرت له على شكل آخر يهدد عمله وعلاقاته، وأودت فيه بالنهاية إلى الجنون. كان قرين غوليادكين يربض بداخله كالوحش وقد ظهر في اللحظة التي لم يعد قادرًا فيها على السيطرة على مخاوفه وأفكاره.

ليست رواية "المزدوج" الوحيدة التي تناول فيها دستويفسكي موضوع الازدواجية في الطبيعة البشرية فقد تردد هذا الموضوع في روايات أخرى منها "الإخوة كارامازوف"، إلا أن روايته هذه هي الأهم في هذا الموضوع. هذه الرواية سابقة لعصرها ولذلك تعرضت في البداية للهجوم وللتجاهل. إلا أن هذا لم يمنع دستويفسكي من اعتبارها أهم وأعمق فكرة تعرض لها في حياته.

مراجع:


1- عبدالحميد، شاكر. الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب، ص 172-178


2- عصفور، جابر. تجليات القرين. مجلة العربي عدد (588) شوال (2007)، الكويت، ص 74-80


3- دوستويفسكي. المزدوج. ترجمة: الجيلالي مويري. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. ط2. 2020