على طريقة مسرحية «في انتظار غودو» الشهيرة للكاتب الأيرلندي الفرنسي صمويل بيكيت، تنتظر حكومات عربية قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة أواسط يوليو المقبل، ربما الفارق المحسوس، أن بايدن تقرر وصوله بتأكيدات البيت الأبيض والديوان الملكي السعودي، في حين لم يصل المخلص «غودو» أبدا إلى منتظريه المشردين (فلاديمير وإستراغون) التائهين اليائسين، اللذين لا يفلحان في كسب يقين، ولا حتى في بلوغ راحة الانتحار بحبل يتقطع، كانت مسرحية «بيكيت» المأساوية الكوميدية طريقه لنيل جائزة نوبل عام 1969، وظلت تذكر كأيقونة لمسرح العبث في كل القرن العشرين.
بينما تبدو زيارة بايدن المنتظرة عبثا بالسياسة في القرن الجاري، وفي وسط تحولات عاصفة على القمة الدولية، كشفت عنها وإن لم تصنعها حرب أوكرانيا، ولم يعد بوسع أمريكا العودة إلى سلطة الآمر الناهي في شؤون الكون، في وقت تنتظر بعض حكوماتنا ابتسامة بايدن الباهتة على وجهه المحنط، ولا تزال تأمل في بركة كراماته وعطفه السامي.
وقد لا تخفي وجوه العبث في حالة بايدن الشخصية والرئاسية، فالرجل على حافة عامه الثمانين، وظروفه الصحية آيلة للسقوط، وعلامات إرهاقه لا تخفيها طبقات المكياج والتقشير والتلميع، وعيناه الغائرتان كأنهما تطلان من عالم آخر سحيق، وانكفاءاته المتكررة على المنحنيات وسلالم طائرته، بدت كروتين يومي، وشطحاته الذهنية الذاهلة صارت موردا رئيسيا للتندر الكوميدي في الميديا العالمية، فهو لا يتذكر غالبا اسم البلد االذي يتحدث عنه في تصريحاته، ويضع العراق مكان أوكرانيا وأفغانستان محل روسيا، وتفشل كثيرا محاولات توجيهه من المساعدين والحراس الشخصيين، وقد حجز لنفسه مكانة لافتة في سجلات التاريخ السياسي العبثي، وتعود على مصافحة الهواء بعد كل خطاب قصير مكتوب يلقيه، وربما تظهر له أشباح لا يراها إلا هو في الفراغ اللانهائي. وربما لو امتد العمر بالكاتب صاموئيل بيكيت المتوفى في 1989، لوجد في حالة بايدن إلهاما أبلغ من شخصية «غودو» الذي لا يجيء، فأمريكا التي يعتبرها البعض أكبر قوة في العالم لا تزال، تحظى بالرئيس الأضعف في تاريخها بامتياز، ليس فقط في حالته البدنية والعقلية المتدهورة، بل في طريقة تفكيره التي صارت عتيقة، فقد صعد بايدن البيروقراطي سلالم الإدارة الأمريكية برتابة وانتظام ونفس طويل، وقت أن كان العالم مختلفا بعد ما يسمى بالحرب العالمية الثانية، وفي زمن الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق، كانت الفكرة الهادية وقتها، تبدو استطرادا لنصيحة ونستون تشرشل بإقامة ستار حديدي، يمنع توسع نفوذ الامبراطورية السوفييتية بدعواها الشيوعية، كان تشرشل آخر الأبناء العظام للإمبراطورية البريطانية الغاربة في وقته، وعاش ليشهد انكماش امبراطوريته وطي أملاكها، وتحولها إلى دولة من الدرجة الثانية بعد حرب السويس 1956، وانفساح مجال قيادة الغرب لأمريكا منفردة، وكانت تملك وقتها ما يزيد على نصف إجمالى اقتصاد العالم كله، وخاضت سباقا طويلا مريرا مع موسكو الشيوعية، إلى أن سقطت الأخيرة بإرهاق تكاليف سباق التسلح، الذي بلغ ذروته في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وكانت النهاية على ما يعرف الناس، أن سقطت القيادة السوفييتية المتكلسة، وبدا أن أمريكا صعدت وحدها على عرش الدنيا، وفي الوقت المستقطع من التاريخ بعد انهيارات القطب السوفييتي، وهو عصر لم يستمر طويلا، بدت فيه واشنطن كقوة مرهوبة مرغوبة، خاضت حروبها الأخيرة في العراق وأفغانستان، ومن دون إمكانية لنيل نصر، تصادر به على حضور قوى الشرق الطالعة من الرماد، والتوزيع العالمي الجديد لسباقات السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا، فقد زحفت الصين ولا تزال إلى عرش العالم اقتصاديا، وعادت روسيا الأضعف اقتصاديا إلى قوة عسكرية ونووية جبارة، بينما واصل الاقتصاد الأمريكي تدهوره الإنتاجي العيني، وأصبحت المئات من قواعد واشنطن العسكرية حول العالم عبئا لا يطاق ماليا، ويقفز بتكاليف السلاح إلى نحو 800 مليار دولار سنويا، مع اقتصاد نزل حجمه إلى أقل من ربع اقتصاد الدنيا الجديدة، وبتلال ديون خارجية وداخلية جاوزت الثلاثين تريليون دولار، وهو ما يعنى أن عدوى إرهاق الاتحاد السوفييتي السابق، ذهبت هذه المرة لتأكل من رصيد القوة الأمريكية المفترضة، على نحو ما يتبدي ظاهرا هذه الأيام، فقد استخدمت واشنطن أقصى ما تملك من قوة سلاح واقتصاد، وفرضت على موسكو أقسى عقوبات من نوعها في التاريخ، ودفعت كل تحالفاتها في أوروبا والمحيط الهادي للموقف نفسه، ومن دون أن يتحقق هدف «إضعاف روسيا» المعلن، ومن دون أن تتراجع فرص النصر الروسي في حرب أوكرانيا، الذي يبدو قدرا لا مفر من ملاقاته، دفع هنري كيسنجر أكبر عقل استراتيجي أمريكي على قيد الحياة، إلى إطلاق صيحة تحذير أخيرة، مفادها ضرورة تقديم التنازلات التي تطلبها موسكو في أوكرانيا، ومحاولة استمالة روسيا إلى صف الغرب في السباق مع الصين، وهو ما يبدو هدفا صعب التحقق هو الآخر، وبالذات مع تطور صلات موسكو وبكين إلى علاقة تحالف «بلا حدود».
ومع هذه الظروف المستجدة كلها، تبدو زيارة بايدن المنتظرة إلى المنطقة، وكأنها زيارة إعادة تعبئة لحلفاء وتابعين ضد روسيا والصين، بعد أن كانت الإدارات الأمريكية الأخيرة المتعاقبة، قد قررت ترك المنطقة لتناقضاتها وحروبها المهلكة، والهجرة بالسلاح إلى المحيط الهادي والمحيط الهندي عند جوار الصين القريب، وجرى ذلك على مراحل وعهود، من باراك أوباما إلى دونالد ترامب، وجاء بايدن ليذهب بنزعة التخلي إلى مداها، وليعلن عداوته باسم حقوق الإنسان، لنظم وحكومات عربية بعينها، ويتعهد بجعلها «منبوذة»، وتنتظر انتقام سيادته المحتوم، لكن رياح التحولات الدولية عصفت بأوهامه، وأتت بما لا تشتهي سفنه الجانحة، وفرض عليه السباق مع روسيا والصين في منطقة الخليج، التي اعتبرها الأمريكيون دوما منطقة لنفوذهم الخالص المضمون، وتوقعوا منها عونا مؤثرا بالأوامر في سياقات حرب أوكرانيا، وإغراقا لسوق البترول لخفض أسعاره الصاعدة في اطراد، وتستفيد بها روسيا البترولية عدوة الميدان، وتزيد في إرهاق الاقتصاد الغربي بجناحيه الأوروبي والأمريكي، الذي يعاني من موجات «ركود تضخمي» متلاحقة، توسع دوائر السخط الاجتماعي بغلاء الأسعار وتفاقم أزمات الطاقة والغذاء، وتنذر بتساقط حكومات بدت مستقرة لفترات طالت، وتهدد بزلزلة عرش بايدن في واشنطن نفسها، وتعده بهزيمة لحزبه في انتخابات الكونغرس خريف العام الجاري، ما دفع بايدن إلى الانحناء، وتقبل زيارة السعودية باعتبارها ملاذا بتروليا، ومحاولة التوصل إلى تفاهم مع من كان يعتبرهم في أوائل «المنبوذين»، وحضور قمة تجمع حكومات «مجلس التعاون الخليجي»، إضافة لمصر والأردن والعراق، وعلى ظن أن الأمور صارت ناضجة مؤاتية لإقامة «ناتو» عربي إسرائيلي ضد إيران، وهي الفكرة ذاتها التي طرحت أيام ترامب، وفشلت بسبب رفض الجيش المصري الانخراط فيها، وهو ما يبدو قابلا للتكرار على الأغلب، ليس فقط بسبب الامتناع المتوقع من السياسة المصرية الرسمية، التي تفضل التطبيع في مجالات السياحة وتسييل وتصدير الغاز الطبيعي من منطقة شرق المتوسط، وتبدو متحفظة منغلقة في أسرار السلاح وصفقاته واستخداماته، واقترحت مبكرا ـ أواخر عام 2015 ـ إنشاء حلف عسكري عربي باسم «القوة المشتركة»، تعثر في التنفيذ بسبب عرقلات خليجية تفضل حماية واشنطن، وإن كانت لا تعول بالضرورة على حماية إسرائيلية جالبة للحرج، بسبب التردد السعودي في إقامة علاقات تطبيع علني رسمي مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي يبدأ بايدن جولته في المنطقة بزيارته، ثم يزور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله، ومن دون توقع حدوث أي تحريك فعلي في ملف الصدام الفلسطيني الإسرائيلي، ولا مقدرة على إحياء أية مفاوضات، فالرئيس بايدن ملتزم بأمن الكيان، وبعقيدته الصهيونية الاستيطانية الإحلالية، وعاجز حتى عن إنشاء قنصلية اتصال بالفلسطينيين في القدس المحتلة، أو مجرد رفع اسم «منظمة التحرير الفلسطينية» من قوائم الإرهاب الأمريكية، والمعنى ببساطة، أن زيارة بايدن قد لا تقود لتغير نوعي يرفع الحرج عن أطراف مهمة في التعبئة ضد إيران، فالقضية الفلسطينية رغم أمارات التخلي العربي عنها، لا تزال ضاغطة ومطروحة على جدول أعمال القاهرة والرياض، وفي العراق الذي يدعونه لتحالف عسكري رسمي مع الكيان، بينما قرر برلمان بغداد جعل التطبيع خيانة عظمى توجب الإعدام، وبعض الدول المدعوة للقاء بايدن في الرياض، أعلنت التعاون العسكري «الإبراهيمي» مع «إسرائيل»، ومن دون أن يكون بمقدورها دفع الآخرين إلى السلوك المتبجح نفسه، حتى لو استعانت بإكراهات بايدن وكراماته.
(القدس العربي اللندنية)