قضايا وآراء

خارطة الطريق الرئاسية: حل للأزمة أم تعميق لها؟

1300x600
تصدير: "الاستفتاءات أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة، تتنكر تحت عباءة الاستبداد.. قلت للطلبة في العديد من المناسبات: أتمنى أن أعيش يوما واحدا أرى فيه استفتاء واحدا بإحدى البلدان العربية، تُظهر نتيجتُه أن الشعب يقول لا" (الخبير الدستوري قيس سعيد قبل توليه رئاسة الجمهورية).

منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021، عرفت تونس منعرجا سياسيا خطيرا، استحوذ بموجبه الرئيس قيس سعيد على كل السلطات أو الوظائف، بحكم أنه يرى أن السلطة للشعب وحده. وبصرف النظر عن الأسباب التي أدت إلى "تصحيح المسار" أو "الانقلاب"، وبصرف النظر كذلك عن العوامل المحلية والخارجية التي جعلت الرئيس ينجح في نقض غزل المسار التأسيسي ومخرجاته، يبدو أنّ موازين القوة -أو بالأحرى موازين الضعف- بينه وبين خصومه، تتجه نحو فرض "خارطة الطريق" الرئاسية في لحظتها الثانية (الاستفتاء)، بعد أن نجح في تمرير اللحظة الأولى (الاستشارة الوطنية الإلكترونية)، تمهيدا للانتخابات التشريعية المزمع عقدها في 17 كانون الأول/ ديسمبر القادم، بدستور جديد يؤسس لتغيير النظام السياسي (من المتوقع أن يكون نظاما رئاسيا) والنظام الانتخابي (التصويت على مرحلتين وعلى الأفراد لا القوائم).

مهما كان موقفنا من تأويل الرئيس للفصل 80 من الدستور التونسي، ومهما كان موقفنا "تصحيح المسار" وأدائه، فإنه سيكون من الصعب أن نختلف في أن ما وقع بعد صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021 قد حوّل "حالة الاستثناء" التي نص عليها الدستور إلى "مرحلة انتقالية" أو مرحلة تأسيسية لـ"جمهورية ثانية"، يستأثر الرئيس ببنائها بعيدا عن أي تشاركية أو حوار وطني جامع. وقد جاءت "خارطة الطريق" الرئاسية لتؤكد هذا التوجه بفرضها مسارا تأسيسيا متكونا من ثلاث مراحل: الاستشارة الوطنية الإلكترونية، والاستفتاء، والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها.
كان عدد من شارك فيها أقل من عدد الذين انتخبوا الرئيس في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم ذلك كله، فقد اعتبر الرئيس أن الاستشارة كانت ناجحة، وهو ما دفعه إلى اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام أو "المرور بقوة" وعدم التراجع عن خارطة طريقه

ورغم نتيجة الاستشارة المخيبة لتوقعات الرئيس والمشككة في دعوى تمثيل الإرادة الشعبية (شارك في الاستشارة أقل من 5 في المائة من التونسيين، بل كان عدد من شارك فيها أقل من عدد الذين انتخبوا الرئيس في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، رغم ذلك كله، فقد اعتبر الرئيس أن الاستشارة كانت ناجحة، وهو ما دفعه إلى اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام، أو "المرور بقوة" وعدم التراجع عن خارطة طريقه.

بعد الانتهاء من الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي أُجريت بعيدا عن أية رقابة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتركيبتها غير المرضي عنها من الرئيس، كان على سيد قرطاج أن يمهد الطريق للاستفتاء بصورة توفر أكبر الشروط "الصورية" اللازمة لتمريره. فقام بحل الهيئة الشرعية وتعيين هيئة جديدة، كما أعلن رفضه حضور مراقبين أجانب للاستفتاء؛ بدعوى رفض التدخل في الشؤون الوطنية، وبدعوى "كفاءة" المشرفين على مراقبة الاستفتاء و"حياديتهم".

ولا شك عندنا في أن الرئيس قيس سعيد لم يسلك هذا النهج إلا بعد قراءة موازين القوى الداخلية والمواقف الدولية "الحقيقية"، أي تلك المواقف التي لا تعكسها بالضرورة بيانات "القلق الشديد" والدعوات المتكررة للعودة إلى الديمقراطية واحترام الفصل بين السلطات. فالرئيس -كما يبدو من قراراته ومراسيمه- لا يأبه كثيرا بالطعون التي قد توجه محليا ودوليا لشفافية عملية الاستفتاء، بل نزعم أنه لن يأبه لنتيجة الاستفتاء ذاتها. لكن بأي معنى؟

سواء اعتمدنا قول الرئيس بنجاح الاستشارة الإلكترونية أم انطلقنا من النبرة الواثقة التي يتحدث بها الرئيس عن الانتخابات القادمة وكأنه يراها رأي العين، فإننا نذهب إلى أن الرئيس سيعتبر الاستفتاء ناجحا، ولو كان عدد المشاركين فيه كعدد من شارك في الاستشارة الإلكترونية أو حتى أقل منه. فالرئيس لا يعنيه إلا عددان يؤسسان -حسب رأيه- لتفويضه بصورة نهائية ومطلقة للحديث باسم الإرادة الشعبية: عدد من انتخبوه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وعدد من خرجوا يوم 25 تموز/ يوليو ضد المنظومة الحاكمة أو ساندوا "تصحيح المسار" لحظة تلاوة "البيان رقم 1".
المعارضة بمختلف أطيافها قد دعت إلى مقاطعة الاستفتاء، ولم تدع إلى المشاركة فيه والتصويت بـ"لا"، فإن الأغلب الأعم ممن سيشاركون في الاستفتاء سيكونون من أنصار الرئيس، وهو ما يعني منطقيا أن الاستفتاء سيمر بـ"نعم". ومهما كان عدد المشاركين، فإن الرئيس سيعتبر الاستفتاء ناجحا ومعبّرا عن الإرادة الشعبية "الحقيقية"

ولمّا كنا نعلم أن المعارضة بمختلف أطيافها قد دعت إلى مقاطعة الاستفتاء ولم تدع إلى المشاركة فيه والتصويت بـ"لا"، فإن الأغلب الأعم ممن سيشاركون في الاستفتاء سيكونون من أنصار الرئيس، وهو ما يعني منطقيا أن الاستفتاء سيمر بـ"نعم". ومهما كان عدد المشاركين، فإن الرئيس سيعتبر الاستفتاء ناجحا ومعبّرا عن الإرادة الشعبية "الحقيقية". فـ"الشرعية" لم تعد مرتبطة في "تصحيح المسار" بالتمثيلية الشعبية القابلة للضبط الكمّي، بل أصبحت مرتبطة بتمثيل المطالب الحقيقية للشعب، حتى لو لم يعبّر هذا الشعب "المتخيل" عنها بحكم خضوعه إلى عمليات "تزييف الوعي" و"الدمغجة" من لدن "أعدائه"، سواء في ذلك أولئك الذين عارضوا الرئيس منذ إعلانه عن "تصحيح المسار"، أو ساندوه ثم ارتدوا على أعقابهم.

من "المضحكات المبكيات" في تونس، أن يفرح الشعب والمعارضة بأن الرئيس لم يصدر مرسوما يفرض فيه على كل المسجلين في القوائم الانتخابية المشاركة في الاستفتاء -كما فعل المشير عبد الفتاح السيسي الذي فرض غرامة على كل المتخلفين عن المشاركة في انتخابات "مجلس الشيوخ"- ولكنّ هذا الفرح بالهامش الديمقراطي الذي تكرمت به السلطة الحاكمة، سرعان ما ينغّصه قرار الهيئة المعينة للإشراف على الانتخابات.

فقد صرح نائب رئيس هيئة الانتخابات بأن "الأطراف الداعية لمقاطعة الاستفتاء غير معنية بالمشاركة في الحملة، وستكون معرضة لتتبعات خاضعة لقانون الحق العام في صورة دعوتها إلى مقاطعة الاستفتاء في أثناء الحملة؛ لأن أفعالها ستصنف كجرائم حق عام وليست جرائم انتخابية".
يبدو أن المعارضة التونسية بمختلف أطيافها لن تستطيع -بوضعها الحالي- أن تفرض على الرئيس تعديل خارطة طريق "الجمهورية الثانية"، كما يبدو أن القوى الدولية ستظل واقعيا في مستوى الحياد ومراقبة تطورات المشهد لفرض التسويات النهائية

إننا أمام خطاب يُظهر حقيقة العلاقة بين "الجهة التحكيمية" (هيئة الانتخابات) ومعارضي الرئيس. فالهيئة المعينة ستتعامل مع معارضة الاستفتاء باعتبارها من "جرائم الحق العام"، ولكننا لم نسمع لها ركزا فيما يخص المدة اللازمة لحوار مجتمعي حول الاستفتاء. أما "الهايكا" (أو الهيئة المشرفة على الاتصال السمعى البصري)، فإنها لم تهمس ولو بحرف فيما يخص تكافؤ الفرص من الناحية الإعلامية؛ بين الداعين إلى الاستفتاء والداعين لمقاطعته خلال الحملة.

ختاما، يبدو أن المعارضة التونسية بمختلف أطيافها لن تستطيع -بوضعها الحالي- أن تفرض على الرئيس تعديل خارطة طريق "الجمهورية الثانية"، كما يبدو أن القوى الدولية ستظل واقعيا في مستوى الحياد ومراقبة تطورات المشهد لفرض التسويات النهائية على كل الفاعلين.

ولعل من بؤس الواقع في تونس، أنّ هناك من ما زال يعوّل على تراجع الرئيس عن مشروعه باعتباره بديلا لا شريكا، أو ينتظر انتقال القوى الانقلابية (بقيادة المركزية النقابية) إلى موقع الرفض المبدئي لخارطة الطريق الرئاسية. إننا أمام مشهد "سريالي" بل عبثي من المتوقع أن يحرم الرئيس من ذلك اليوم الذي يرى فيه "استفتاء واحدا في إحدى البلدان العربية، تُظهر نتيجتُه أن الشعب يقول لا"، وهو أمر متوقع ما دامت أغلب النخب تصرّ على أن تحرم الشعب كله من رؤية ذلك اليوم الذي يرى فيه تشكل "الكتلة التاريخية"، على أساس تجاوز الصراعات الهوياتية والتوافق على كلمة سواء لتحرير الإنسان والكيان من الفساد في الداخل والتبعية للخارج.