قضايا وآراء

البودكاست وصوت الإذاعة العائد بقوة لساحة الإعلام

1300x600
سادت الصورة الوسائل الإعلامية خلال العقود الماضية منذ دخل التلفزيون المنازل في العالم، كما لحق بالتلفزيون الإنترنت ليعزز من مكانة الصورة في الوسائط الإعلامية. وفي مقابل هذا الانتشار تراجع دور وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، وانتشرت نظرية مفادها أن الصورة هي المستقبل وأن الصوت الإذاعي والكلمة المكتوبة ماتت. وفي أتون هذا السباق الماراثوني وراء تحويل كل الأخبار والمعاني إلى صور على المستوى الإعلامي وحتى المستوى الشخصي، برز لدينا في العالم عودة حثيثة نحو الصوت. وهي ليست عودة من باب الحنين لماضي مجد الإذاعة التليد، ولكن عودة الصوت في ثوب جديد هو البودكاست والكتب الصوتية، وغيره من الاستخدامات الجديدة للصوت في الساحة الإعلامية.

منذ عدة سنوات كانت فكرة البودكاست حاضرة كتطبيق في معظم الأجهزة الذكية. وكالعادة كانت الساحة الإعلامية الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، هي السباقة في إنشاء محتوى صوتي ما بين برامج مرتبطة بالمؤسسات الصحفية والإعلامية والبودكاست الشخصي. ولم يولِ العالم العربي اهتماما كبيرا لهذه الظاهرة لأنه كان مشغولا بتداعيات ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها السياسية، خاصة مع ربيع إيران ودور تويتر فيه عام ٢٠٠٩، والثورات العربية التي بدأت عام ٢٠١١ ودور فيسبوك فيها.

ومنذ أن بدأت الساحة العربية في التصحر السياسي تدريجيا، وحلت أخبار الحروب والمجازر والنزاعات محل أخبار الأمل والمستقبل التي حملتها رياح الثورات العربية، حدث نزوح تدريجي نحو وسائط ووسائل إعلامية جديدة تحمل معاني مختلفة. ومن هنا دبت الحيوية في قطاع الصوت العربي، وعلى رأسه البودكاست.
التفسير السياسي هو فقط أحد تفسيرات ظهور هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة وليس التفسير الوحيد لها، فبخلاف النظريات الغربية السائدة عن فكرة التقدم، وأن كل قديم هو مذموم وكل حديث ممدوح، أثبتت عودة الصوت للساحة الإعلامية أن الأمر ليس له علاقة بالتقدم ولا التأخر، ولكن الحاجة البشرية لوسيلة إعلامية ما تفرضها على الواقع

والتفسير السياسي هو فقط أحد تفسيرات ظهور هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة وليس التفسير الوحيد لها، فبخلاف النظريات الغربية السائدة عن فكرة التقدم، وأن كل قديم هو مذموم وكل حديث ممدوح، أثبتت عودة الصوت للساحة الإعلامية أن الأمر ليس له علاقة بالتقدم ولا التأخر، ولكن الحاجة البشرية لوسيلة إعلامية ما تفرضها على الواقع. ومن هنا عاد الصوت مرة أخرى ليزاحم الصورة لدى الجمهور في العالم، وخاصة في العالم العربي.

لا يختلف البودكاست حديثا عن فكرة الإذاعة قديما من حيث جوهر المادة سوى في أمرين؛ هما فكرة البث المستمر الذي تفرضه الإذاعة، وفكرة جدولة البرامج بمواعيد ثابتة يحتاج المستمع ليضبط جدوله عليها ليستمع إليها، حيث حرر البودكاست المستمع من فكرة انتظار البرنامج أو فرض بث مباشر مستمر عليه، ليستطيع أن يختار ما يشاء من برامج وقنوات يشترك بها. أما فكرة الكتاب الصوتي فهي مختلفة، إذ تقدم المعرفة المكتوبة كما هي ولكن بشكل صوتي. وأصبح كلا النموذجين مصدرا مهما للمعرفة والثقافة لدى كثيرين، خاصة من يقودون السيارات في الزحام لمسافات طويلة أو حتى المسافرين عبر الطائرات؛ لأن البودكاست يمكن تحميل برامجه تلقائيا على برامج الهواتف ويمكن الاستماع لها من دون إنترنت.
أثبتت تجارب تطبيقات الصوت في العالم العربي أنه كان بحاجة ماسة لمثل هذه العودة، بعد الإفراط المبالغ فيه في انتشار الصور التي أصبحت هدفا في حد ذاتها من دون أن تحمل فكرة أو معنى، وأصبح لدينا تخمة بصرية في العالم العربي عبر الفضائيات والإنترنت، وسط حاجة ماسة لإعادة صياغة المعاني والثقافة القيم، بعيدا عن بهرجة الصورة وسحرها

منذ مطلع العام الماضي، حدثت قفزة أخرى في عالم الصوت تعزز الجانب التفاعلي فيه عبر تطبيق كلوب هاوس. ورغم بساطة الفكرة وإمكانية تطبيقها عبر تطبيقات أخرى، إلا أن روح الجرأة والمبادرة وحسن قراءة المشهد الإعلامي في العالم لمن يقفون وراء هذا التطبيق مكّنت الفكرة من الانتشار بين قطاعات كبيرة. لقد نزل تطبيق كلوب هاوس على الساحة الإعلامية كنزول المطر على الأرض العطشى، واستطاع أن يحصد الجمهور الجاد غير المنبهر بالصورة وتطبيقاتها، وأثبت أن الصوت الصاعد بقوة في وسائل الإعلام لن يقف عن حدود أفكار مثل البودكاست والكتب الصوتية.

لقد أثبتت تجارب تطبيقات الصوت في العالم العربي أنه كان بحاجة ماسة لمثل هذه العودة، بعد الإفراط المبالغ فيه في انتشار الصور التي أصبحت هدفا في حد ذاتها من دون أن تحمل فكرة أو معنى، وأصبح لدينا تخمة بصرية في العالم العربي عبر الفضائيات والإنترنت، وسط حاجة ماسة لإعادة صياغة المعاني والثقافة القيم، بعيدا عن بهرجة الصورة وسحرها الذي تجاوز أطر المتعة والمعرفة ووصل لحد الترهيب والإدمان.

twitter.com/hanybeshr