نستكمل السجال حول الشهادة والرحمة على شيرين أبو عاقلة بالتذكير مجددا بالمشكلة التي طرحتها فتوى الفقيه أبو حامد الغزالي والتي نصت بحسب نسخ إلكترونية عديدة على ما يأتي: "الكفر: هو تكذيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به". والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به. فاليهودي والنصراني: كافران؛ لتكذيبهما للرسول عليه الصلاة والسلام. والبرهمي: كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين، والدهري: كافر بالطريق الأولى، لأنه أنكر مع رسولنا المرسل، سائر الرسل، وهذا لأن الكفر حكم شرعي: كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار. فيدرك إما بنص شرعي أو بقياس على منصوص.
وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى: البراهمة، والثنوية، والزنادقة، والدهرية وكلهم مشركون مكذبون للرسل.. "فكل كافر مكذب للرسل. وكل مكذب للرسل فهو كافر. فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة".
تنطوي هذه الفتوى على قطيعة واضحة بين المسلم وغير المسلم أي الأجنبي لأنها تعني أن كل ما يأتي من الأجانب هو كفر مباح ولا فائدة ترجى منه للإسلام والمسلمين بل ضرر ينبغي رده. وجعلت الفتوى حدودا عملية وواقعية للإسلام محصورة بعلوم الدين والفقه.
البادي في هذه الفتوى أنها دفاعية إذ تقطع كل تواصل بين علوم الأجانب وعلوم المسلمين. ولعل أبو حامد الغزالي أراد الوصول إلى هذا الهدف عندما وجه انتقادات قاسية إلى ابن سينا والفارابي اللذين سيصنفان من بعد في مرتبتي المعلم الثالث والمعلم الثاني بعد أرسطو إذ أقاما الاتصال الناجح بين علوم الأجانب اليونانية وعلوم المسلمين العربية.
ارتبطت فتوى الغزالي بظروف عصره وهي شديدة التعقيد فقد كان هذا الفقيه العالم واللامع شاهدا على سقوط القدس وهول الحملات الصليبية النازعة لاجتثاث الإسلام والمسلمين. لربما استنتج أن عليه أن يحصن الدفاعات الإسلامية من كل اختراق أجنبي. ولربما اعتقد أن التواصل مع تراث الأجانب الذين "اخترقوا" بأفكارهم عقول المسلمين ينطوي على قدر من المسؤولية في ضعف مقاومة حملات الصليبيين وسقوط القدس وإبادة أهلها جميعهم.
أخمن أن القرن الحادي عشر لم يكن أفضل قرون المسلمين في الغرب الإسلامي أيضا فقد شهد تضعضع صفوفهم وبداية سقوط ممالكهم. كانت طليطلة أولى المدن الساقطة، مملكة التواصل الأولى بين المسلمين وتراث الأجانب المعرفي. وقد أثار سقوطها دويا كبيرا في العالم الإسلامي عموما وفي الغرب بصورة خاصة. كان على علماء المسلمين أن يفسروا أسباب سقوط القدس وطليطلة، أي تقدم الأجانب وتراجع المسلمين، ولعلهم توصلوا عبر أبو حامد الغزالي إلى وجوب القطيعة بين الأجنبي المنتصر والمسلم المهزوم.
هكذا كان التواصل الفكري والمعرفي مع تراث الأجانب هو الضحية. ومن غير المستبعد أن تكون فتوى الغزالي عبارة عن موقف دفاعي كما أشرنا، في حين كانت انتصارات المسلمين خلال العهد العباسي الذهبي في الشرق والعهد الأموي الذهبي في الأندلس وشمال إفريقيا فرصة "للغزو" الفكري لعلوم الأجانب إن جاز القول وترجمتها وتبيئتها وتطويرها والإضافة عليها.
والملاحظ في هذا السياق أن رد الفعل الفقهي السلبي الذي حملته فتوى الغزالي قابله رد فعلي إيجابي في الأندلس بعد قرن من صدورها، سيعبر عنه الفقيه أبو الوليد ابن رشد الذي استند إلى سلطان الموحدين الشجاع يعقوب المنصور وكان من قراء أرسطو ومن محبي الحكمة. فكان أن خالف ابن رشد فتوى القطيعة التي اعتمدها الغزالي ودعا إلى الترابط بين الحكمة والشريعة في كتابه فصل المقال ذلك "إن الحق لا يضاد الحق وإنما يوافقه ويشهد له"، أي أن الحق في الشريعة لا يتعارض مع الحق الوارد من الحكمة. فالأول يمكن إدراكه بالإيمان والتفسير الديني والثاني بالأدلة البرهانية أي بالقياس العقلي. هذا الاجتهاد العبقري سيكون له أثر مهم على سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي هرطقت ابن رشد وبالتالي على النهضة الأوروبية، في حين ستواصل فتوى الغزالي انتصاراتها حتى يومنا هذا رغم الظروف المختلفة التي أحاطت بالعالم الإسلامي منذ صدورها.
إن نظرة خاطفة على حال العالم الإسلامي قبل فتوى التكفير تشير إلى عناصر نهضة إسلامية غيرت وجه العالم وذلك بفعل التواصل والتفاعل بين علوم الأجانب وعلوم المسلمين. لقد تولى مسيحيون ويهود حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية فحملت هذه الحركة إلى المسلمين معارف العصور الغابرة فبنوا عليها وطورها وأضافوا إليها ونقلوها إلى غيرهم. ويعترف هذا الغير اليوم بفضل المسلمين المعرفي إذ يتحدث المنصفون الغربيون عن دَيْنٍ حضاري للعرب الذين سطعت شمسهم على الغرب بحسب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة.
من المُسلّمِ به أن حجم وأثر التواصل بين المسلمين والأجانب في الحضارة العباسية في الشرق والأموية في الأندلس يفصح عن ثورة معرفية عملاقة بدأت في بغداد ومنها انتقلت إلى الأندلس. كان بعض الحكام العرب يشرف بنفسه على هذه الثورة ويوسع أفقها ومن بينهم بل أبرزهم المأمون الذي كان فلكيا كبيرا أنشأ مناظير خاصة لرصد النجوم والمجرات. وكان هذا الخليفة العباسي المثقف يحترم علماء أهل الذمة من النصارى واليهود الذين طبعوا العصر العباسي الأول (755م 1030م) وبفضلهم ازدهرت الحركة العلمية (راجع علي بن إبراهيم النملة، النقل والترجمة في الحضارة العباسية).
قبل المأمون كان هارون الرشيد قد شيد بيت الحكمة ـ للإسم دلالة مهمة ـ وقد حظي من بعده برعاية أبو جعفر المنصور. ساهم بيت الحكمة بإنقاذ التراث العالمي من الضياع وقد استغرقت هذه المهمة الانقاذية ثلاثة قرون هي قرون النهضة الإسلامية التأسيسية. ومن حسن الحظ أن مصنفات بيت الحكمة لم تندثر بعد فظاعات المغول في بغداد (1258 م) إذ كانت قد انتشرت في شتى بقاع المسلمين.
تنشأ المعرفة عن تعدد مصادر الخبرات وتتقدم الشعوب التي نجحت في تحويل حركة مجتمعاتها المتنوعة إلى فرص نجاح متعددة في حين فشلت المجتمعات التي فرضت على شعوبها لونا واحدا وفكرة واحدة وقراءة دينية انعزالية تنطوي على قطيعة مع الغيرالمختلف.
من بغداد كانت تنتقل المصنفات والترجمات والمؤلفات إلى الأندلس عبر العلماء المسلمين الذي ينتقلون من الشرق إلى الغرب أو العكس. ويروى أن الحكم بن عبد الرحمن خليفة الأندلس كان يبعث برجاله إلى المشرق لشراء الكتب في بداية ظهروها ويُروى أنه أرسل ألف دينار للأصفهاني لشراء النسخة الأولى من كتابه (الأغاني) الذي انتشر في الأندلس قبل أن ينتشر في بغداد. ولم يكن التواصل العلمي بين المسلمين والأجانب محصورا بصناع المعرفة بل كان يصل إلى الحكام أنفسهم (مثال على ذلك إرسال الامبراطور البيزنطي ارمانوس كتابين في الطب إلى الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر).
لعبت القطيعة الناجمة عن التكفير ومازالت تلعب إلى اليوم مع الأسف دورا سلبيا للغاية وتعيق تقدم المسلمين. ومن المؤسف أيضا أن نهج القطيعة قد انتقل إلى الكنيسة الكاثوليكية في الأندلس بعد سقوطها. فقد قرر الإسبان المنتصرون بعد قرن من سقوط غرناطة إنشاء محاكم التفتيش المتخصصة في فرض القطيعة بالحديد والنار بين الإيمان الكاثوليكي والثقافة العربية الإسلامية ما أدى إلى تراجع الحضارة الأندلسية وانحدار معرفي سنجد أثره السلبي في تراجع مدينة قرطبة على الأخص من عاصمة مشرقة ومشعة على أوروبا والعالم إلى مدينة فقيرة وهامشية بعد أن منعت اللغة العربية من التداول فيها وفي كل مدن الأندلس وتمت معاقبة المتحدثين باللسان العربي شر عقاب.
سيشهد التاريخ بالحق لابن رشد ولدعاة التواصل بين الحكمة والشريعة وسيحكم على مدرسة القطيعة الانعزالية بالفشل وذلك على الرغم من المحنة التي أصابت هذا الفقيه الأندلسي المتنور عبر صدور قرار بحرق كتبه رغم التراجع عن القرار بعد سنوات قليلة من صدوره.
من نافل القول أن المعرفة سلطة مشعة وأكثرها إشعاعا تلك الناجمة عن التنوع والتعدد. هذا ما يراه محي الدين بن العربي عندما يؤكد بالقول "كل معرفة لا تتنوع لا يعول عليها" وهو الذي اختبر التنوع والتعدد في رحلته المعرفية التي بدأت بعد ولادته (1164) في الأندلس إلى وفاته في دمشق (1240). وما رآه الشيخ الصوفي الجليل نجد تعبيراته في أيامنا حيث تنشأ المعرفة عن تعدد مصادر الخبرات وتتقدم الشعوب التي نجحت في تحويل حركة مجتمعاتها المتنوعة إلى فرص نجاح متعددة في حين فشلت المجتمعات التي فرضت على شعوبها لونا واحدا وفكرة واحدة وقراءة دينية انعزالية تنطوي على قطيعة مع الغير المختلف.
كانت شيرين أبو عاقلة رمزا للتعدد والتواصل الناجح في مسيرة النضال من أجل استرجاع حقوق الفلسطينيين المشروعة والمغتصبة في حين ينتقل التكفيريون بكافة فئاتهم ومشاربهم ومذاهبهم وأيديولوجياتهم من فشل إلى فشل. ومن حسن الحظ أن فشلهم الأخير كان كبيرا حين ارتفعت أصوات المؤمنين مرددة آيات الرحمة على أبو عاقلة وصيحات الله أكبر على نعشها في المستشفى الفرنسي في القدس.
إقرأ أيضا: عن سجال الشهادة والرحمة على شيرين أبو عاقلة.. نقاش هادئ
"الاحتلال" في آلية بناء الأسطورة والشعب والدولة.. رأي حقوقي
عن سجال الشهادة والرحمة على شيرين أبو عاقلة.. نقاش هادئ
اغتيال شيرين أبو عاقلة كخنجر في صدر مريم أو الأم تيريزا