قضايا وآراء

الحجّ الأخير لعمر بن الخطّاب وإرهاصات الشّهادة

1300x600
في مثل هذه الأيّام من العام الثّالث والعشرين للهجرة النبويّة كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في مكّة المكرّمة يؤدّي مناسك حجّه الأخير.

ومن الجدير ذكره أنّ عمر بن الخطّاب حرص على الحجّ في سنوات خلافته العشر كلّها، مع اختلاف في الأقوال حول قيامه بالحجّ في السّنة الأولى من خلافته، كما ذكر المؤرّخ المقريزي في كتابه "الذّهب المسبوك في ذكر مَن حجّ من الخلفاء والملوك".

وفي حجّه الأخير اصطحب عمر رضي الله عنه معه إلى الحجّ أمّهات المؤمنين أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم.

وكان لباسه في الحجّ وهو خليفة المسلمين الذي بسط نفوذه على بلاد فارس ومصر والشّام، وكانت الفتوحات قد بلغت ما لم تبلغه دولة الإسلام من قبل؛ في غاية البساطة والتواضع؛ زهداً حقيقيّاً لا استعراضاً لالتقاط الصّورة كما يحرص زعماء الأزمنة الرّديئة.

يقول المقريزي: "وقال أبو عثمان النّهدي: رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزارٌ مرقوعٌ بقطعة جراب".

الإصابة في رمي الجمرات

تروي كتب التّاريخ المختلفةِ واقعةً حدثت لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهو يرمي الجمرات، ومفادها أنّه لما رمى الجمرة في آخر حجّة حجّها أتاه حجر فوقع على صلعته، فأدماه، وثَمّ رجل من بني لهب، فقال: "أشعر أمير المؤمنين لا يحجّ بعدها"، ثم جاء إلى الجمرة الثانية، فصاح رجل: "يا خليفة رسول الله"، فقال: "لا يحج أمير المؤمنين بعد عامه هذا".

في هذا الموقف لم يكن عمر رضي الله عنه متشائماً وهو يعلنُ شعورَه بأنّه لن يحجّ بعد عامه هذا، بل كان يقول ذلك إلهاماً وقد عاين في إصابته ورأى الدّم الذي ينفر من صلعته رسالةً وإرهاصاً من إرهاصات الشّهادة، فهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "لقَد كَان فِيما قَبْلَكُم مِنَ الأُممِ نَاسٌ محدَّثونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ، فإنَّهُ عُمَرُ" رواه البخاري، ورواه مسلم من روايةِ عائشةَ، وفي رِوايتِهما قالَ ابنُ وَهْبٍ: "محدَّثُونَ أَي: مُلهَمُون".

وتأتي مُحدّثون بمعنى "مُلهمون للصواب"، ويقال: رجلٌ محدّث أي يجري الصّواب على لسانه من غيرِ قصدٍ منه.

أمنيةٌ عمريّة عظيمة في نهاية الحجّ

بعد أن أنهى عمر رضي الله عنه مناسك حجّه استلقى على ظهره يرقب الحجيج من المسلمين، وهم يختمون مناسكهم فرفع يديه إلى الله تعالى ضارعاً داعياً، وكان دعاؤه:

"اللّهم ضعفت قوتي، ورقَّ عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرّط ولا مفتون، اللّهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتةً في بلد رسولك".

هذه هي أمنيات عمر رضي الله عنه؛ أن يقبضه الله تعالى غير مفرّط بالأمانة؛ أمانة الحكم غير مضيّع لها، وغير مفتون بها ولا متشبّث بالمنصب ولا الكرسيّ ولا الخلافة.

ثمّ تكون غاية الأمنيات عنده أمنية عجيبة غريبة؛ الشّهادة في سبيل الله تعالى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

والمدينة حينها عاصمة الخلافة التي تمتدّ قوتها وسلطانها شرقاً وغرباً، ومن يريد الشّهادة في سبيل الله تعالى فعليه أن يلتحق بجند المسلمين في الثّغور التي تبعد آلاف الكيلو مترات عن المدينة المنيعة الحصينة.

إن دعاء عمر رضي الله عنه في نهاية الحجّ لا يعبّر فقط عن أمنية عمريّة شخصيّة، بل هو تعبيرٌ جليّ عن الرّوح العمريّة التي ينبغي أن تسري في كلّ من يتولّى من أمور المسلمين شيئاً، بأن يلقى الله تعالى غير مفرّط بأمانة المسؤوليّة ولا مضيّع لها ولا مضيّع لمن هم تحت مسؤوليّته، وغير مفتونٍ بالمنصب متشبّث فيه.

كما أنّ همّ الخاتمة ينبغي أن يكون حاضراً عند أصحاب النّفوس الكبيرة العالية، وأعظم خاتمةٍ ينالها المسلم في حياته هي الشّهادة في سبيل الله تعالى؛ لذلك جاء الحضّ على سؤال خاتمة الشّهادة، وأنّ من سألها بصدق فقد نال منازل الشّهداء المقرّبين ولو مات على فراشه آمناً في سربه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلم: "مَن سأَلَ اللَّه تَعَالَى الشَّهَادةَ بِصِدْقٍ بلَّغهُ اللهُ منَازِلَ الشُّهَداءِ وإنْ ماتَ على فِراشِهِ".

وبعد أن انتهى الحجّ عاد عمر رضي الله عنه إلى المدينة لتبدأ مشاهد الفصل الأخير من حياته العمريّة العظيمة في نهاية شهر ذي الحجّة من تلكم السّنة الثّالثة والعشرين للهجرة.

twitter.com/muhammadkhm