4 ـ دواعي استعمال مصطلح الإسلام الديمقراطي
لعل من أهم دواعي استعمال مصطلح الإسلام الديمقراطي، التعبير عن حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية ما حصل في العشرية الماضية من تطورات سريعة في المنطقة العربية؛ إثر انطلاق مسار ثورات الربيع العربي، التي كانت ذات طابع جماهيري وسلمي، وعبرت، ولا تزال، بكل قوة عن تطلعات الشعوب العربية للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية، ورفعت عاليا صوت الذين يؤمنون بالخيار الجماهيري الديمقراطي في التغيير من حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية، الذين يمثلون التوجه الإسلامي الأصيل، بعد أن كادت تسود لغة العنف الموصوم بالإرهاب وسحبه على الجميع دون تمييز، إلا في بعض الحالات النادرة مثل حركة "النهضة" التونسية، التي رغم مساعي نظام زين العابدين بن علي لتصنيفها حركة إرهابية حتى قبل أحداث أيلول (سبتمبر)، إلا أنه لم يفلح.
لقد فرض هذا التطور النوعي العودة بقوة إلى استعمال مصطلح الإسلام السياسي، خاصة بعد صعود الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية للحكم في أول انتخابات ديمقراطية في تونس ومصر وليبيا والمغرب، مع تراجع ملحوظ في استعمال مصطلح الإرهاب. ومع ما حصل من انتكاس في مسار البناء الديمقراطي في بلدان الربيع العربي بفعل المحور الإقليمي المضاد للثورات، الذي جمع ما تبقى من أنظمة الاستبداد والفساد في المنطقة مع الكيان الصهيوني لخوض صراع، لا يزال متواصلا بين قوى الثورة والقوى المضادة لها، حيث عادت لغة الخلط والتشويه، ومزيد حشو مصطلح الإسلام السياسي بكل المساوئ والسعي لتصنيف كل من تمت نسبته إليه إرهابيا وعزله ومحاصرته.
ضمن هذا السياق، بدأ استعمال مصطلح الإسلام الديمقراطي في تونس من قبل حركة "النهضة"، التي كانت سباقة إلى دخول النضال السياسي من باب الحرية بإعلانها عن نفسها حزبا سياسيا ديمقراطيا منذ 6 حزيران (يونيو) 1981، وتنظير قادتها وعلى رأسهم الأستاذ راشد الغنوشي للديمقراطية من منظور إسلامي. وقد سبق استعمال مصطلح الإسلام الديمقراطي استعمال مصطلحات أخرى قريبة منه، مثل المسلمون الديمقراطيون أو المسلم الديمقراطي، ثم تأكد استعماله تدريجيا وتبلور بالتنظير له في السنوات الأخيرة، كمصطلح معبر عن توجه تتبناه الحركات والأحزب ذات المرجعية الإسلامية في تركيا والمغرب وتونس وغيرها، التي تخلت عن المقولات الجاهزة وعن الشعارات الفضفاضة، والتزمت بالديمقراطية منطلقا وآلية وهدفا، بدل عنوان الإسلام السياسي.
5 ـ دلالات مصطلح الإسلام الديمقراطي:
يمثل الإسلام الديمقراطي لغة نعتا ومنعوتا ورد للتوضيح والمدح عكس الإسلام السياسي. أما دلالاته من الناحية الاصطلاحية، فهي متصلة بفهم للإسلام ينبني على اعتماده كمرجعية في معالجة قضايا الإنسان فردا أو جماعة في مختلف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتأكيد عدم تناقضه مع الديمقراطية كآلية لبناء الدولة وإدارة الشأن العام، باعتبار أنها الوجه الآخر للشورى كأحد أهم المبادئ التي بني عليها الإسلام، وقد رد في حوار للأستاذ راشد الغنوشي على موقع "عربي21" في 8 نيسان (أبريل) 2020 مايلي:
"عندما نظرنا إلى مقاصد الإسلام وقيمه، وجدنا أنها تلتقي مع هذه الطريقة في إدارة الشأن العام، فالشورى ليست في خلاف مع الديمقراطية بل هما وجهان لعملة واحدة". وقد ورد في كتاب الأستاذ مالك بن نبي حول الديمقراطية في الإسلام في تحديده للعلاقة بينهما ما يلي: "لقد بات من الواضح أن كلمة إسلام تعني مجموعة من واجبات الإنسان حسب تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام في حديثه المعروف بحديث جبريل، بينما كلمة الديمقراطية تعني مجموعة حقوقه حسب تعريفها بسلطة الشعب، "والرابط بين المصطلحين هو الإنسان الذي لا يمكن أن يتحقق اجتماعه إلا بأساسين اثنين هما الحقوق والواجبات"، مع أن الإسلام في رؤيته للحياة البشرية لم يختزلها في الواجبات فقط، بل أكد الحقوق ضمن مبدأ الشورى الذي لا يختلف في أصوله عن الديمقراطية.
راشد الغنوشي: "عندما نظرنا إلى مقاصد الإسلام وقيمه، وجدنا أنها تلتقي مع هذه الطريقة في إدارة الشأن العام، فالشورى ليست في خلاف مع الديمقراطية، بل هما وجهان لعملة واحدة"
أما ادعاء بعض الإسلاميين التناقض بين الإسلام والديمقراطية بدعوى أنها جزء من منظومة فكرية عقائدية نشأت في الغرب مستندة إلى العلمانية اللادينية، حيث مثلت الديمقراطية آلية تنزيلها، ففيه مبالغة في التمسك بالشكليات بدل التعمق في معاني الأفكار ومفاهيمها وسياقات نشأتها، ولا مشاحة في المصطلحات.
وقد تبين بالدرس والتمحيص أن العلمانية في حقيقتها كما ذهب إلى ذلك الأستاذ راشد الغنوشي في مقال له حول العلمانية ورد في سلسلة "نحو تأصيل لمفاهيم إسلامية"، قوله: "فكانت العلمانية حلا إجرائيا يتمثل في تحرير العقول من كل وصاية وإطلاق عنانها بلا حواجز ولا قيود ولا تهديد، ووضع حد لتدخل الكنائس في المجال العام باعتباره مجالا عقليا خاليا من المقدسات، تتدافع فيه كل الآراء والتجمعات، وتتولى أدوات الديمقراطية تنظيمه، وذلك مقابل حصر الكنائس في خصوصيات المسائل الروحية".
بهذا المعنى، فإن العلمانية تسوية سياسية بين رجال الدين ورجال السياسة في الغرب، ثم تحولت فيما بعد إلى رؤية فلسفية منها اللادينية مثل العلمانية الفرنسية، والمحايدة تجاه الدين مثل العلمانية الأنجلوسكسونية.. وعلى هذا الأساس انبنت تجربة الأحزاب الديمقراطية المسيحية والأحزاب المحافظة في بريطانيا وألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة وعدة دول من أمريكا الجنوبية، وجوهر أطروحتها الالتزام بالديمقراطية وبالقيم الدينية المسيحية وباقتصاد السوق الاجتماعي، وهي أقرب في أمريكا الجنوبيه إلى اليسار من حيث الطرح الاقتصادي.
وقد مثلت الديمقراطية آلية لتنزيل التسوية الحاصلة بين رجال الدين ورجال السياسة في أوروبا، وفق ما أكده الدكتور رفيق عبد السلام في أطروحة الدكتوراه التي قدمها بعنوان "في العلمانية والدين والديمقراطية".
لذلك، فإن استعمال صفة الديمقراطية كنعت للإسلام، إنما هو تمييز لمن يتبنون هذا الفهم المنسجم مع أسسه ومنطلقاتة عن بقية الأفهام القاصرة أو المنحرفة.. جاء في حوار الأستاذ راشد الغنوشي مع موقع "عربي21" حول هذا المعنى ما يلي: "لذلك نختلف جوهريا عن الحركات التي لا تؤمن بالديمقراطية. وبمجرد القول بأنك مسلم ديمقراطي، اختلفت عن كل تيارت العنف والإرهاب التي لا تؤمن بقوامة الشعب وبحقه في اختيار من يحكمه".
كما يمثل اعتماد مصطلح الإسلام الديمقراطي تعبيرا على ما بعد الإسلام السياسي بمعنى تطور حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية في تفاعلها مع معطيات الواقع بمرونة وتجددها، دون تخليها عن منطلقاتها وهويتها. وليس بمعنى نهايتها والبحث عن بدائل لها.
إن مصطلح الإسلام الديمقرطي يعبر عن الحركات والأحزاب التي تستند في منطلقاتها الفكرية والسياسية ورؤاها الاقتصادية والاجتماعية إلى المرجعية الإسلامية، وتعتمد الديمقراطية آلية لتنزيلها.
اقرأ أيضا: مقاصد مفهومي الإسلام السياسي والإسلام الديمقراطي (1 من 3)
أبو العلا ماضي يروي قصة تحالف الإخوان وحزب العمل اليساري
هل كل ما فعله الرسول سنة وكل ما لم يفعله بدعة؟ باحثون يجيبون
دستور قيس سعيد.. تعسف في توظيف مقاصد الشريعة