آراء ثقافية

رجال في الشمس ورجال في الصقيع

لاجئون عراقيون

منذ نكبة 1948 وحتى احتلال العراق لم تتوقف مشاهد الموت والألم عن ترويعنا، وقد استثمر عديد من الكتاب هذا الواقع المؤلم في كتابة قصص تصور حجم الهول والروع الذي أودى بحياة كثيرين لم يطلبوا غير الحق بحياة كريمة.

مع ازدياد أعداد المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا نذهل لسماع قصص موت مرعبة، فنرى الأمل الأخير بالهروب من جحيم الواقع المعاش يتحول إلى نهايات مأساوية. في هذا المقال قراءة لقصتين تدوران في أزمنة وأمكنة مختلفة ولكنهما تتشابهان في المصير المؤلم.

شاحنة برلين

"شاحنة برلين" قصة للكاتب العراقي حسن بلاسم تدور أحداثها حول خمسة وثلاثين شابًا عراقيًا اتفقوا مع مهرب تركي لينقلهم من اسطنبول إلى برلين بشاحنة مغلقة لتصدير الفاكهة. تسير الأمور بشكل جيد في البداية، لكن الأمور تبدأ بالتغير في الليلة الثالثة، إذ تتوقف الشاحنة فجأة، وبعد أربعة أيام تعثر الشرطة الصربية على الشاحنة عند أطراف مدينة حدودية، وحين يفتحون الباب الخلفي للشاحنة يقفز شاب ملطخ بالدماء، تاركًا وراءه أربعًا وثلاثين جثة.

يركض كالمجنون نحو الغابة، وما إن يدخلها حتى يتحول إلى ذئب رمادي.

يعترف الراوي ببداية القصة بأن القصة التي سيرويها غريبة جدًا، وبأنه يصعب تصديقها. إلا أنه في موضع آخر في القصة يؤكد على أن هذه القصة مثال واحد من قصص فظيعة يسكت عنها الإعلام العالمي. ويؤكد على أن قصص الغرق الجماعي التي تنقلها وسائل الإعلام ما هي إلا مشهد سينمائي ممتع أمام القصص المروعة التي يتعرض لها اللاجئون.

يصف الراوي في بداية القصة تجربته مع المهربين؛ إذ جمع نقودًا من عمله ببار ودفعها "لمهربي مواشي الشرق إلى مزارع الغرب" (1)، وقد كان لكل طريقة تهريب سعرها.

تدعو قصص بلاسم إلى إثارة أسئلة مهمة حول آثار العنف العراقي خارج الحدود، فقد تحولت أوروبا من حلم لطالبي اللجوء إلى كابوس مرعب، وتحول معها طالبي اللجوء إلى كائنات جديدة هجينة، بعد أن أفقدتهم هذه الرحلات إنسانيتهم.

في الظلام

"هذه القصة حدثت في الظلام. ولو قدر لي أن أكتبها مرة أخرى، لكتبت ما أطلقت حينها من صيحات فزع فقط، وما أطلقته من تلك الأصوات الأخرى الغامضة التي رافقت المجزرة"(2).

يعتبر الظلام أحد العناصر الأساسية في قصص الرعب، فالظلام يؤجج القلق وانفعالات الخوف. وللظلام دلالات ومعان سلبية نجدها في الأديان والأساطير. وهذه القصة حدثت في شاحنة مغلقة ومظلمة تفاعلت فيها الظروف لتثير عالمًا من الرعب. قد تكون هذه الشاحنة رمزًا للوضع العراقي المقفل، فهي تشبه السجن الذين يعيشون به، ويحاولون الهروب منه لكن دون جدوى.

يبدع بلاسم في رسم صور البشاعة المنفرة لما يحدث في هذا الفضاء الضيق المظلم، واصفًا الأصوات والروائح التي لا تطاق. "كان هناك من تغوط في أكياس الطعام، وكانت الرائحة الفظيعة تتراكم داخل الشاحنة مثل طبقات من الحجر، وتشبه أنفاس الشبان مجتمعة، كأن وحشًا يتنفس بصخب في الظلام"(3).

لقد تسبب الصراخ والرائحة وركل جدران الشاحنة إلى استمرار حالة الخوف التي يعيشها الشبان، بل زاد الذعر ليتحول لعراك في الظلام.

يصف لنا بلاسم ما حل بركاب الشاحنة إذ "تحول أربعة وثلاثون شابًا إلى عجينة كبيرة من اللحم والدم والخراء"(4).

نجا منهم شاب واحد قفز من الشاحنة وركض نحو الغابة وتحول لذئب رمادي قبل أن يختفي فيها.

ربما أراد الكاتب القول إن هؤلاء الشبان فقدوا آدميتهم وتحولوا لحيوانات تقتات على بعضها. هذه الأجساد لم تمزقها السكاكين، بل "عملت بها مخالب ومناقير وأنياب..."(5).

وربما أراد أن يشير إلى الواقع العراقي الذي مزق فيه العراقيون بعضهم من خلال الاقتتال والعنف الطائفي.

رجال في الشمس ورجال في الصقيع

"قد تكون عملية النقد عملية بحث عن الأشباح في النصوص الأدبية، أشباح النصوص الأخرى، والتي تتجسد فيما يسمى الآن بالتناص أو النصوص الغائبة، وقد يكون هذا الشبح الموجود داخل النص شبحًا مرتبطًا بالشخصيات أو الظروف الاجتماعية أو غيرها"(6).

من خلال قراءة "شاحنة برلين" نستحضر رواية رجال في الشمس (7) لغسان كنفاني (1936-1972)، والتي تدور حول ثلاثة رجال فلسطينيين، يقررون السفر بطريقة غير نظامية إلى الكويت، ويكون مصيرهم الموت اختناقًا داخل خزان لنقل المياه، لتأخر السائق عند النقطة الحدودية.

يموت أبطال كنفاني دون إصدار أي صوت، ودون قرع جدران الخزان.

تمثل الرواية بما فيها من شخصيات وأحداث الواقع العربي والفلسطيني، فهؤلاء الرجال الذين قرروا السفر بهذه الطريقة غير الآدمية يمثلون الشعب منتهك الحقوق، الذي ضاقت عليه بلاده وخاف من الموت جوعًا فهرب ليجد موتًا أفظع بانتظاره.

يقسم كنفاني روايته إلى سبعة أجزاء تكون الثلاثة الأولى منها حول أبطال الرواية (أبو قيس، وأسعد، ومروان) فنعرف فيها قصتهم والدوافع التي جعلتهم يخوضون رحلة الموت.

أما ركاب شاحنة بلاسم فلا نعرف هوية أحد منهم، كل ما نعرفه هو أنهم شبان عراقيون حالمون اتفقوا مع مهرب تركي للوصول إلى برلين. إلا أننا نعرف الدوافع التي جعلت راوي القصة يفكر بالسفر تهريبًا، لكن قصة "شاحنة برلين" جعلته يتخلى عن فكرة العبور بالشاحنة. "كان الخوف من المجهول في تلك السنوات القاسية يضاعف من طمس هوية الانتماء إلى الواقع المألوف. ويدفع إلى السطح بوحشية كانت مطمورة تحت حاجات الإنسان اليومية البسيطة.

في تلك السنوات شاعت قسوة حيوانية دنيئة، سببها الخوف من الموت جوعًا. كنت أشعر بأنني مهدد بالتحول إلى فأر"(8).

لا بد أن المهاجرين في شاحنة برلين شعروا بما شعر به الراوي، فإن الموت الذي كان يخيم على حياتهم لم يكن أسهل من المغامرة التي خاضوها أملًا بالوصول إلى أوروبا تهريبًا.

يخشى الراوي أن يموت جوعًا، ويخشى أن يتحول إلى فأر، ولهذا يفكر في خوض رحلة قد تحوله إلى أكثر من ذلك.

يسيطر على الراوي شعور بعدم الانتماء للواقع المألوف، فخوفه من المجهول ومما سيحل به زعزع استقراره وانتماءه، فلا يمكن لخائف أن يستقر، ولا لجائع أن ينتمي.

تشابهت الأحول التي دفعت أبطال كنفاني وأبطال بلاسم إلى الرحيل تهريبًا في شاحنة، وتشابهت مصائرهم. إلا أن الفرق بين القصتين يتضح من خلال ردود أفعال ركاب الشاحنة المغلقة، ففي حين صور لنا بلاسم الرعب الذي عم في الشاحنة، من خلال وصفه لأصوات الصراخ والذعر، والروائح المقرفة، والجريمة البشعة التي حدثت، فإن أبطال كنفاني آثروا الموت بصمت.

تنتهي رواية كنفاني بتساؤل السائق "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟"(9).

ولكن هل كان سيسمع صوتهم لو أنهم صرخوا واستنجدوا؟ وكيف أفاد الصراخ ركاب شاحنة برلين! ربما اختار أبطال كنفاني الموت حين قرروا الدخول للخزان للمرة الثانية، ربما كان موتهم في الخزان أسهل عليهم من العودة لحياتهم الأولى، وقد خسروا كل شيء، حتى أملهم بالفرار.

حولت رواية كنفاني لفيلم سينمائي عام 1972 من إخراج توفيق صالح بعنوان "المخدوعون". وقد غير صالح النهاية بأن جعل أبطال الرواية يقرعون جدران الخزان، ولكن دون أن يسمعهم أحد. إن صرخت أو لم تصرخ فإن النتيجة واحدة؛ لن يسمعك أحد.

 


مصادر:
1- بلاسم، حسن. معرض الجثث. ايطاليا: منشورات المتوسط. 2015، ص21
2- المصدر ذاته، ص21
3- المصدر ذاته، ص25
4- معرض الجثث، ص27
5- المصدر ذاته، ص27
6- عبد الحميد، شاكر. الشبح والغرابة والصور المحاكية. ص99
7- الرواية الأولى لغسان كنفاني، كتبها في بيروت سنة 1963
8- معرض الجثث، ص21
9- رجال في الشمس، ص93