بعض
الكلمات أقسى وأكثر تدميرا من الرصاص، ولذا وجب علينا أن ننتبه لما نقول ولمن نقول!
ولعل واقعة وفاة شاعرنا ومثقفنا الكبير صلاح عبد الصبور، لهي خير دليل على قوة تأثير
الكلمة، قوة وتدميرا.
فلا
شك أن مثقفنا الكبير كان متمردا عظيما، وتشهد عليه أعماله الشعرية المسرحية، كليلى
والمجنون ومسافر الليل ومأساة الحلاج، وقد حفظت أجيال وأجيال مسرحياته عن ظهر قلب.
في
بلد تتعرى فيه المرأة كي تأكل لا يوجد مستقبل.
أمي
ما ماتت جوعانة..
أمي
عاشت جوعانة..
إذا
مرضت صبحا..
قعدت
ظهرا..
ماتت
قبل الليل.
وهكذا
فقد كان صلاح عبد الصبور رمزا كبيرا، ولذا اندهش الجميع عندما استقطبته السلطة،
وأوكلت إليه رئاسة هيئة الكتاب، كما اندهش المثقفون أكثر بقبول صلاح عبد الصبور
لهذا المنصب، لأنه بذلك سينتقل من جيب اليسار إلى جيب السلطة ذات التوجه المحافظ.
ولعل
تقييمنا للأمور لا يفيد شيئا الآن، إلا أن المثقف الكبير كانت له وجهة نظر أخرى،
فقد وجدها فرصة ذهبية لرأب الصدع ما بين اليسار وبين السلطة.
ووجدها
فرصة أكثر وأكثر، للوصول إلى دولاب الدولة المهيب لكي ينقذ ما يمكن إنقاذه بأقل
الخسائر الممكنة. وبالفعل استطاع أن يعبر بكثير من المشاكل بهدوء يحسد عليه.
ومر
الوقت إلى أن جاء القرار بوجود الجناح الإسرائيلي بمعرض الكتاب المزمع إقامته في القاهرة،
وكانت صدمة في ذاك الوقت لكل
المثقفين، وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور شخصيا.
وحاول
صلاح عبد الصبور أن يقنع السلطة بالعدول عن هذا القرار، إلا أن السادات تمسك
بتنفيذ القرار الذي اعتبره المثقفون مؤامرة على الشعب
المصري، وأصبح صلاح عبد
الصبور في مرمى نيران الجميع، فهو مطالب من قبل السلطات المعنية بتنفيذ القرار،
وإلا أصبح متقاعسا ومتهربا من تنفيذ قرار يمثل رأس السلطة المصرية.
وفي
نفس الوقت إذا نفذ القرار فسيصبح منفذا للتطبيع ومتواطئا مع السلطة لتمرير قرارها
ضد إرادة المثقفين والشعب، ولهذا عانى صلاح عبد الصبور ما عانى.
وفي
يوم اتصل به الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي لكي يدعوه إلى منزله بمناسبة لقاء
الزملاء والأصدقاء، منهم الأستاذان جابر عصفور ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان
وغيرهما، وبالطبع صلاح عبد الصبور وزوجته السيدة الفاضلة سميحة غالب، وبالفعل اجتمع
الأحباب والأصدقاء.
وبعد
كلام الود والمجاملة، بدأ الكلام يأخذ شكل محاكمة كان بطلها رسام الكاريكاتير
بهجت عثمان، والذي أطلق رصاصته القاتلة وباغته بقوله: إنت بعت نفسك للسلطة بقرش
صاغ. هنا انفعل صلاح عبد الصبور وعلا صوته، ثم أحس بضيق بالتنفس ليخرج على إثر ذلك
يجمع الهواء من فراندة مفتوحة، إلا أن التعب اشتد عليه، فنقله جابر عصفور إلى
المستشفى فورا، ليلفظ أنفاسه الأخيرة هناك.
وهكذا
فقدنا رجلا ومثقفا كبيرا وقامة رفيعة المستوى، قتلته كلمة رعناء قاسية صوبت إلى
قلبه كي تمزقه تمزيقا. وأنا لا أقيّم مواقف صلاح عبد الصبور بقدر ما أثمن موقفه
الإنساني بامتياز.. سلاما لروحك عزيزي صلاح عبد الصبور.