قضايا وآراء

أزمة الديمقراطية في المنطقة العربية

1300x600

عاشت المنطقة العربية طيلة العشرية المنصرمة موجة الربيع العربي التي حصلت بعد مراكمة متنوعة للنضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

واليوم بعد أن أسدل الستار عن تجارب الانتقال الديمقراطي في المنطقة بعدما حصل في تونس مهد الربيع العربي ومنطلقه من انقلاب كامل عن المسار منذ سنة تقريبا يحق لكل عقل عربي متوازن ومؤمن بالحرية وبإرادة الشعوب في تحديد مصيرها أن يتساءل: لماذا فشل الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية ونجح في أكثر من منطقة في العالم؟

وبالعودة لتفاعل العقل العربي مع واقع المنطقة في عقود ما قبل الربيع العربي فإن الإجابة تبدو بسيطة وقد يتم إرجاعها إلى الاستبداد والإرادة الدولية الرافضة لأي تحول ديمقراطي في المنطقة تضاف إليها الحجة القديمة المتجددة التي تتعلل بها الأنظمة وهي عدم تهيء الشعوب للديمقراطية.

لقد بينت ثورات الربيع العربي تهافت هذه الذرائع، حيث أثبتت ضعف الأنظمة وتهاويها وتراجع الإرادة الدولية أمام إرادة الشعوب وتصميمها ووعيها بحقها في تقرير مصيرها والدفاع عن مصالحها .

 

الحياة الحزبية تكاد تكون مشلولة في المنطقة العربية إلا من بقايا أحزاب بنيتها الداخلية وأوضاعها لم تتخلص من الموروث الثقافي والمجتمعي القديم موروث الجماعة أو الطائفة أو القبيلة الشيء الذي جعلها غير قادرة على تحمل المسؤولية الوطنية.

 



كما بيّن فشل تجربة انتقالها الديمقراطي بعد عشرية كاملة من الصراع والمكابدة أن أزمة الديمقراطية في المنطقة العربية أكثر عمقا وتشعبا مما كانت عليه قبل عقود، دون أن ننكر أن عشرية الثورة والديمقراطية في المنطقة العربية قد مثلت قفزة نوعية في مسار تحرر إرادة الشعوب في اتجاه الحكم الرشيد والازدهار الاقتصادي والفعل الحضاري.

ومن مظاهر عمق أزمة الديمقراطية في المنطقة العربية إضافة إلى المظاهر السابقة والتي تتظافر من خلالها العوامل الداخلية والعوامل الخارجية والتي يمكن اختزالها فيما يلي :

ـ عدم وجود تحول حقيقي نحو احترام القوى الدولية لإرادة شعوب المنطقة، حيث لا تزال الرغبة في التحكم هي الأساس لاعتبارات تاريخية واقتصادية وجيو استراتجية .

فالمنطقة مهد للحضارات وخاصة الحضارة العربية الإسلامية والديانات وملتقى لها، والتحكم فيها هو تحكم في المخزون الحضاري للإنسانية وضمان لاستمرار هيمنة القوى الدولية الحالية للحول دون نهضة حضارية إنسانية بالإسلام. كما إنها منبع مهم للطاقة ومخزون استراتيجي لها ومحدد أساسي في التوازنات الاقتصادية الدولية في ظل أزمة اقتصادية عالمية مستفحلة بسبب مخلفات جائحة كوفيد 19 ثم حرب أوكرانيا.. أما موقعها الاستراتيجي فتبدو أهميته من خلال وجودها في قلب العالم وتحكمها في أهم الممرات المائية الدولية وإطلالتها على كل قارات العالم إلى جانب قيادتها للعالم في فترات مهمة من تاريخ البشرية .

ـ وجود الكيان الصهيوني في قلب المنطقة والذي كان ولا يزال الهدف منه إخضاع المنطقة والتحكم في مقدراتها.. وقد أثبتت تجربة الربيع العربي بلا أدنى شك أن هذا الوجود عائق أساسي أمام الديمقراطية في المنطقة، فقد تغض القوى الدولية الطرف عن الديمقراطية لتنتشر وتنمو في أمريكا الجنوبية أو آسيا الوسطى أو حتى في إفريقيا.. أما في المنطقة العربية فهي محرمة دوليا لأن فيها تهديد مباشر لمصالحها ولربيبها المدلل إسرائيل الذي لم يدخر جهدا طيلة العشرية الماضية بالتعاون مع حلفائه الفعليين والموضوعيين وتوابعه في المنطقة من أجل إنهاء التجربة مهما كانت التكلفة .

ـ وجود نخب فكرية وسياسية في عمقها غير ديمقراطية جعلت جيلا كاملا من المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية يفشل في إدارة الحكم وبناء الديمقراطية.

فقد يتعلل البعض بقوة التيار المضاد للثورة والديمقراطية وما يلقاه من دعم دولي وإقليمي إلا أن المتأمل بعمق في التجربة بكل عناصرها رغم ما لها من خصوصيات يلاحظ الضعف الفادح للإيمان بالمشترك الوطني لدى النخب وتجذر ثقافة الإقصاء وأحيانا الاستئصال الأيديولوجي أو الطائفي وضعف روح المواطنة كما يلاخظ حالة عدم القبول بالآخر المختلف معه فكريا أو سياسيا أو عرقيا، والالتجاء في أغلب الأحيان للحسم باستعمال العنف المعنوي والمادي.. كما يلاحظ أيضا عدم احترام إرادة الأغلبية التي يترجمها الصندوق عبر آليات الديمقراطية التمثيلية وعلى رأسها الانتخابات التي لا بديل عنها إلى الآن في الفكر السياسي الإنساني.

 

 

جود الكيان الصهيوني في قلب المنطقة والذي كان ولا يزال الهدف منه إخضاع المنطقة والتحكم في مقدراتها.. وقد أثبتت تجربة الربيع العربي بلا أدنى شك أن هذا الوجود عائق أساسي أمام الديمقراطية في المنطقة،

 



وقد تمظهر ذلك في الجهود المبذولة من طيف واسع من النخب لإفشال تجربة حكم القوى التي أفرزها الصندوق وهي في أغلبها ذات خلفية إسلامية بل والإمعان في ذلك بالدعوة للانقلاب على الديمقراطية والمشاركة في ذلك والانخراط في تأجيج الصراعات الطائفية والقبلية من أجل حسم التناقض الرئيسي ثم التفرغ للتناقضات الثانوية.. وكان التناقض مع الاستبداد مسألة ثانوية دون اعتبار بالتاريخ القديم والحديث أو بتجارب الشعوب وعلى رأسها شعوب أوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرها يحدو بعضهم أمل في ديمقراطية انتقائية بدون أحد المكونات الأساسية للمجتمع.


هذا لا يبرىء الذين اختارهم الشعب في تجارب الربيع العربي من المسؤولية في ضعف تقديرهم وسوء إدارتهم وتفريطهم أحيانا في مصالح شعوبهم وقلة تشبعهم بأسس الديمقراطية ومبادئها في كل مجالات الحياة الجمعياتية والحزبية وفي الدولة.. فلا معنى للمحاججة في إحدى السياقات بأن التداول كمبدأ من مبادىء الدمقراطية مجال تطبيقه في الدولة وليس في الأحزاب وهو ترجمة عملية للانفصام بين الأقوال والأفعال وبين التنظير والتدبير.

إلا أن هذا الفشل في تجربة الحكم لا يبرر الانقلاب على الديمقراطية ولا يسوغه ولا يشرعن المشاركة فيه.

ـ ضعف البنية التحتية للديمقراطية التمثيلية والمتمثلة في الوسائط بين المجتمع والدولة وأساسا جمعيات المجتمع المدني والأحزاب وهو راجع في جانب منه إلى البنية الهيكلية للمجتمعات العربية والإسلامية القائمة على التعدد والتنوع العرقي والديني والطائفي وصعوبة تحولها نحو التهيكل الحزبي الذي يتطلب درجة عالية من الاندماج والانصهار في بوتقة المشترك الوطني وجعله المعيار الأساسي للانتماء ولممارسة المواطنة في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فالحياة الحزبية تكاد تكون مشلولة في المنطقة العربية إلا من بقايا أحزاب بنيتها الداخلية وأوضاعها لم تتخلص من الموروث الثقافي والمجتمعي القديم موروث الجماعة أو الطائفة أو القبيلة الشيء الذي جعلها غير قادرة على تحمل المسؤولية الوطنية .

إن المنطقة العربية اليوم وفي إطار المراكمة على تجربة الربيع العربي وبالاستفادة من تجارب شعوب أخرى في بناء ديمقراطية تمثيلية مستقرة ومزدهرة تحتاج إلى تأسيس للوعي عبر بناء المشترك الديمقراطي داخل مجتمعاتها من خلال طليعة نخبوية من الأجيال الجديدة تجعل من هذا التوجه خيارا استراتيجيا في المدى المتوسط والبعيد. إلا أن هذا التوجه لا ينفي النضال من أجل عودة الديمقراطية ومن أجل الحريات وتوسيع الهامش الديمقراطي دون المساهمة في إضفاء الشرعية بأي صيغة من الصيغ على الاستبداد وممارساته.

*كاتب وناشط سياسي تونسي