(1)
لم أعد أرغب في تعقب إجراءات السلطة في مصر بالنقد السياسي، لأن هذا المسار يضعني خلف السلطة كمعقب وتابع في الطريق نفسه، وهذه "التبعية" تسرق مني صوتي ورأيي وطريقي، لذلك أفضل أن أتطرف في استقلاليتي وأتمسك بالكلمات التي تعبر عني وعن أمثالي، وبالطريق الذي اخترته لصالح إنسانيتي وحريتي حتى لو تصادمت مع كل السلطات، فأن أمضي وحيدا في الطرق الموحشة خير لي من أن أمضي وراء السلطة في مواكبها ومسالكها، سواء كان (المشي في الركاب) بالمدح والتأييد أو الهجاء والرفض، ففي الحالين سأفقد لغتي وطريقي وأوصافي ويتم تعريفي بموقعي من السلطة وفقط.
(2)
هل فقدان رغبتي في هجاء السلطة يعبر عن تعب أو بوادر يأس أو شعور بأن الأوضاع الفاسدة التي أرفضها يصعب تغييرها وليس أمامي إلا الابتعاد عن طريق القطار الذي يكتسح كل شخص أو شيء يعترض مساره الحتمي؟
(3)
لا أحب الأسئلة التي تبدأ بـ: "هل"، ولا أحب الإجابات المتوقعة التي تبدأ: "بالعكس"، لكنني أحب أشياء كثيرة أخرى تخصني، ليس من بينها أن أكون ظلا لأحد، أو تابعا لغيري، أتحدث فيما يقترحونه من موضوعات، وأخوض المعارك التي يحددون وقتها واتجاهها، ولا يرضيني أن أشارك النظام في "حالته"، فالنظام ينمو ويكتسب قوته وحضوره بـ"المعارضة التشاركية" أكثر مما يستفيد من الدعم الأهطل لجمهور "التأييد التهليلي".
لذلك أوضح أنني تجاوزت "حالة السخط والمعارضة الكلامية" إلى "حالة الكفر السياسي الشامل"، وهذا يعني أنني خارج على كل المشروعات السياسية المطروحة على الساحة لأغراض سلطوية، سواء كانت هذه المشاريع في السلطة أو في "ترانزيت المعارض" بغية السفر إلى قصور السلطة مستقبلا..
لم أعد أحب التوصيفات والتصنيفات المنتشرة التي تدور حول السلطة باعتبارها "قدرا مركزيا" و"جاذبية أرضية" يصعب التحرر منها، لا أحب نياشين الوطنية المتداولة في السوق السياسي، ولا الهويات الطائفية والسياسية التي سممت إنسانيتنا، ولا أراهن على مشاريع قومية ولا ليبرالية ولا مشاريع سياسية بأغطية دينية أو وطنية، فالإنسان عندي فوق هذا كله، أرغب في أن أكون إنسانا ثم تأتي التوصيفات الفرعية بعد ضمان إنسانيتي وتوفر شروطها من حرية وكرامة وعدل وعقل واختيار ومساواة..
لم أعد أرغب في تعقب إجراءات السلطة في مصر بالنقد السياسي، لأن هذا المسار يضعني خلف السلطة كمعقب وتابع في الطريق نفسه، وهذه "التبعية" تسرق مني صوتي ورأيي وطريقي، لذلك أفضل أن أتطرف في استقلاليتي وأتمسك بالكلمات التي تعبر عني وعن أمثالي، وبالطريق الذي اخترته لصالح إنسانيتي وحريتي حتى لو تصادمت مع كل السلطات، فأن أمضي وحيدا في الطرق الموحشة خير لي من أن أمضي وراء السلطة في مواكبها ومسالكها،
باختصار أريد أن أتخلص من هيمنة السلطة وأذرعها على لغتي وبرامجي وأفعالي وأحلامي، لا أحب أن أكون مجرد "رد على فعل ينشئه غيري"، فأنا لست ضد سلطة بعينها، لكنني ضد "كل السلطات" وضد "كل الأوضاع" التي تسلبنا إنسانيتنا وتمضغ لحمنا كطعام اعتيادي بلا تقزز أو وجع للضمير، فالأنطمة السياسية تنظر إلينا كما ننظر نحن إلى الدجاج، وتنتظر منا ما ننتظره نحن من الدجاج: حياة قصيرة في حظيرة، يتبعها الذبح والاستفادة من لحمنا كطعام.
لهذا فإن اهتمام أنظمة الحكم والتحكم بصحتنا وطعامنا يصبح مفهوما في حدود حفاظهم على وجبة الغذاء المفضلة، فلا حياة لملك ولا رئيس ولا رجال أعمال من طراز المليارات بدون الدجاج، الجماهير الغفيرة هي التي تمنح كل هؤلاء مناصبهم وقوتهم وثرواتهم، وفي المقابل تظل الجماهير مجرد وجبة غذاء رخيصة وضرورية لبقاء أقطاب الأنظمة في سجلات الحياة وسجلات السلطة وسجلات الشهرة والثروة..
(4)
كتبت كثيرا عن ضرورة تأجيل التصنيفات إلى ما بعد توفر الشرط الإنساني المتكامل لكل الناس على اختلاف مذاهبهم وألوانهم وأعراقهم وأفكارهم، فالناس ليسوا دجاجا تربيه الأنظمة في حظائرها وتحكمه بمشيئتها، وفي هذا المقال لا أقول جديا من حيث الدعوة إلى الفكرة المركزية.. فكرة أن أظل إنسانا ثم أكتسب صفاتي الأخرى بعد ذلك: مسلم أو مسيحي أو لا ديني.. قومي أو ليبرالي أو انكشاري.. دكتور أو مهندس أو عامل نظافة، فكل هذا التنوع حتمي ولا بد منه شريطة ألا ينتقص من أو يتعارض مع الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان.
الجديد في مقال اليوم هو "الدرجة"، وليس "الفكرة"، والحديث عن "الدرجة" بشكل علمي وفلسفي يشير إلى إمكانية "تغير الحالة" حتى لو كانت الفكرة أو المادة هي نفسها، وأوضح بمثال بسيط فأقول إن الماء إذا تعرض لدرجة حرارة أعلى فإنه يتحول إلى غاز أو يتجمد إذا انخفضت الدرجة إلى ما دون الصفر، وهذا يذكرنا بقانون علمي يخبرنا أن "التغير الكيفي" يؤدي حتما إلى تغير كمي وكذلك فإن التغير الكمي يؤدي إلى تغير كيفي، وعلى سبيل الإخلاص في النصيحة أدعو العقلاء في بلاط السلطات العربية وغير العربية للتفكير في علاقة ذلك القانون بالثورات وانفجارات الغضب الشعبي، فالتراكم الكمي للقرارات الخاطئة والظروف المعيشية الصعبة يؤدي بالضرورة لتحولات كيفية لدى المواطنين المسالمين ليجعل منهم قنابل تدمير عشوائية يعب التحكم في آثار ونطاق تدميرها.
(5)
أعود للحديث عن نفسي فأقول إنني كنت أنقد وأرفض الأوضاع السياسية مع حرص أخلاقي على الاحترام، ومع التأكيد المتواصل على الأمل في إمكانية تعديل السلطة الخاطئة لمسارها، لكنني الآن وصلت (بالتحول الكيفي) إلى رفض مقرون بالاحتقار الواجب للخاطئ الذي لا يتوقف عن خطاياه، وكذلك باليأس من تعديل السلطة لمسارها، حيث تبين لي أن السلطة الدوجمائية (عموما) مثل قطار محكوم بمسار لا يمكن أن يخرج عنه إلا بكارثة، أو باختراع جديد يمنح القطار حرية أجمل ومرونة أنفع..
تأملوا معي تشبيه السلطة بقطار، عربة واحدة تقود الجميع، وتخيلوا معي في أفكار من هذا النوع:
ـ أن الرفاهية والكراسي المريحة وخدمات السفر انتقلت من عربات الركاب إلى "عربة السحب".
ـ أن الأمان والانضباط أصبح مقابلا للحرية.
ـ أن "إدارة القطارت" قررت مكافحة "السيارات الشخصية" باعتبارها "معارضة إرهابية" لا تحترم مبدأ السير على القضبان، فالسيارات المارقة الإرهابية تثير الفوضى وتكدر الأمن العام وتسرح وتمرح بدون خطوط سير محددة سلفاً؟!
ـ أن إدارة القطارت سنت تشريعات تحكم بالموت على كل من يتجرأ ويقف في طريق القطار، بينما تحاكم قائد السيارة التي تصدم من يقف في طريقها مع أن جريمة القتل واحدة في الحالين؟!
(6)
هناك جديد إذن في المقال، حتى لو كانت الفكرة الجوهرية واحدة (وهي التذكير بإنسانيتنا)، ولعل الجديد غير "فكرة الدرجة" يتمثل في طريقة القول، وبالتعبير الفني يصبح السؤال: كيف أقول ما أقول؟ وليس ماذا أقول؟ أو لماذا أقول؟
لأن قولنا واحد ومكرر: الحرية والكرامة والعدل والتعاون الطيب بين الناس مهما كانت الخلافات والاختلافات..
لهذا سأكتب سلسلة من المقالات تعتمد على الطريقة الفنية والذاتية في عرض مشكلة نعرفها جميعا، لكننا لا نقتحمها بالشجاعة الكافية والوضوح اللازم، وهي مشكلة فساد حياتنا كبشر، تمكنت عصابة اسمها "السلطة" من تشويه الحقائق وإعادة تعريف المفاهيم بخداع شيطاني يضع "الوطنية" ضد "الإنسانية"، ويسمي "الحرية" "جريمة" ويحاكم الناس على التعبير عن رأيهم بوصفه "إرهابا"، عصابة تسجن الشرفاء إذا عارضوها وتصنع التماثيل للصوص حتى لو قتلوا أثناء حرق حقول الفلاحين ونهب بيوتهم.
(توضيح)
من الواجب أن أخبركم أنني لم أخطط لكتابة المقال بهذا الشكل ولا بهذه الكلمات، كنت قد أعددت مسودة لكتابة مقال خشبي عن فساد المشاريع السياسية باعتبارها مشاريع احتراب للوصول إلى سلطة الحكم، واحترت في العنوان: "جريمة المشاريع السياسية"، أم "خطيئة المشاريع السياسية"؟
وبدلا من كلمة "المشاريع" تذكرت صفة "الدكاكين" كتعبير قديم دارج عن "سبوبة" اللعب في السياسة التي تخص بها السلطة بعض غلمانها لفبركة حالة من المظهر السياسي تغطي "عمل العصابة" وتمنحه صفة علنية وقانونية، وأخذتني تأملاتي إلى التصنيف القانوني الذي توحي به كلمة "جريمة" والتوصيف الديني الذي توحي به كلمة "خطيئة"، ولأنني أريد الخروج من التصنيفات وعدم وضع المفاهيم الصحيحة ضد بعضها البعض، فقد رأيت استخدام توصيفات أشمل وأوسع لا تضع القانون في مواجهة الدين، فالأديان لا تتعارض مع القوانين إذا كان كلاهما صحيحا.
الخلاصة التي أود أن أقولها في هذا التوضيح أن المقال فرض لغته وكلماته واتخذ مساره الخاص على غير ما خططت وأعددت مسبقا، لأنه ببساطة مقال حي حر وليس قطاراً.
وفي المقال المقبل نبدأ من "حافة الغد".
tamahi@hotmail.com
أين تقف القاهرة اليوم من الأزمة الليبية؟
ترِكة الديكتاتورية.. السودان نموذجا
الفكر القومي العربي وفاجعة النهايات