«بلغ السيل الزبى»، إذا شاء المرء اختيار مرادف ملائم من الفصحى لترجمة الأصل الإنكليزي لحركة Enough is Enough، التي لم تتأسس في بلد فقير نامٍ أو متخلف أو «عالمثالثي» كما كانت تقول الرطانة القديمة؛ بل في المملكة المتحدة، الدولة العظمى، المتقدمة المصنّعة الغنية، والإمبراطورية الاستعمارية السابقة التي شهدت حقبة لم تكن فيها الشمس تغرب تماماً عن أطراف مستعمراتها.
صحيح أنّ اثنين فقط من أعضاء مجلس العموم البريطاني شاركا في تأسيس الحركة، هما زارا سلطانة وإيان بيرن، إلا أنّ الحجم اللافت للجهات النقابية ومنظمات المجتمع المدني المنخرطة في أنشطتها ينطوي على الكثير من الدلالات؛ خاصة وأنّ انطلاقتها الأولى، من الوجهة المطلبية أوّلاً، لا تنهض من فراغ ولا تتعزز في فراغ على سلسلة الخلفيات الاقتصادية/ الاجتماعية التي باتت تأخذ صفة الأزمات المتعاقبة في البلاد؛ وخاصة، أيضاً، وأنها تترافق مع صعود رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس، واتضاح العواقب الأولى لسياساتها المبكرة في المعدلات القياسية لتدهور قيمة الجنيه الإسترليني.
ليس مدهشاً، وإنْ كان يتوجب أن يلفت الانتباه بسبب صدوره في بريطانيا العظمى تحديداً، أنّ الحركة تقوم على خمسة مطالب: زيادة حقيقية في الأجور، تخفيض في فواتير الطاقة، إنهاء الفقر الغذائي، مساكن لائقة للجميع، والضرائب من الأغنياء. طرائق العمل المعلَنة (حتى الساعة على الأقلّ، إذْ لا تُستبعَد احتمالات تطوّرها إلى صيغ أشدّ جذرية)، هي التظاهرات والاعتصامات، وإنشاء مجموعات العمل على نطاق التجمعات المختلفة، تنظيم صفوف التضامن، ومقاضاة الشركات والأفراد المستفيدين من الأزمة الراهنة.
نبرة الخطاب العامة لا تبدو، من جانبها، وكأنها تقتصر على التحشيد المطلبي بل تذهب إلى مستوى الدعوة إلى أخذ زمام الأمور ذاتياً وتنظيمياً، والانفضاض عن «المؤسسة التي لا يمكن الركون إليها لحلّ مشكلاتنا» كما يقول البيان التـأسيسي؛ ويضيف: «هذا يقع على عاتقنا، في كلّ مكان عمل وكلّ جماعة. فإذا كنتَ تجهد للبقاء على قيد الحياة، وكان أجرك لا يغطي فواتيرك، وضقتَ ذرعاً بالعمل الأقسى مقابل الأجر الأقل، وينتابك القلق على مستقبلك، ولا تستطيع تحمّل ما يجري لبلدنا ــ فلتنضمّ إلينا».
وحين خاطبت تراس مؤتمر حزب المحافظين مؤخراً، وسط أجواء من التطبيل والتزمير لم يكن الإعداد المسرحي المسبق خافياً عنها، كان الاقتصاد البريطاني يترنح لتوّه تحت ضربات سياسات ضريبية متخبطة متناقضة وقاصرة؛ وكانت الفئات الشعبية تتلقى، من جانبها، أولى صدمات أكلاف السكن والعقارات والغذاء والطاقة؛ ولم تتأخر فئات العمال في استلام هدية تراس المتمثلة في اتهام النقابات بمعاداة «النموّ».
ولم يدرك، إلا بعض أنصارها والأكثر تكاذباً في صفوف قيادات «المحافظين»، كيف لها أن تنجز وصفة نموّ سحرية عجز أسلافها من رؤساء الحكومات عن بلوغها، طوال 12 سنة؛ بل يصحّ التذكير، أيضاً، أنّ آخر 50 سنة من عمر المملكة المتحدة لم تشهد أيّ نموّ أعلى من ذاك الذي سبقه. الشارع الأعرض من جانبه، وكما تعكسه استطلاعات الرأي، كان يشير إلى تقدّم حزب «العمّال» بمعدّل 54٪ (+ 9 نقاط)، مقابل «المحافظين» 21٪ (- 7)، و«الأحرار» 7٪ (- 2)، و«الخضر» 6٪ (- 1).
سيّان إذن، مع فوارق معتادة لا تبدّل الجوهر، أن يتبادل إدارة المتجر أمثال توني بلير أو بوريس جونسون، وأن يتعاقب خلف منصات الشراء والمبيع أمثال ليز تراس أو كير ستارمر
لكنّ هذا الاستطلاع يعيد طرح الأسئلة العتيقة إياها، التي تثير إشكالية تبادل الأدوار بين الحزبين الرئيسيين: لماذا، إذن، مُني «العمال» بخسارة مهينة في الانتخابات الأخيرة، وخرج «المحافظون» بنصر كاسح؟ وما الذي تغيّر هكذا حتى تنقلب الأحوال بينهما، رأساً على عقب تقريباً؟ وما الذي سيتغير حقاً؟ ولقد اختار بعض مراقبي هذه الإشكالية (كيت بروكتور، في «الغارديان»، على سبيل المثال) حفنة أسباب «تقنية» تجيب عن بعض الأسئلة السالفة؛ كالقول، مثلاً، إنّ شخصية زعيم العمال السابق جيريمي كوربن كانت عائقاً، أو أنّ برامج الحزب كانت مستعادة ولا جديد فيها، أو أنّ متاعب بريكست هيمنت على ستراتيجية «العمال» المتقلبة، أو تراجع الحزب في مواقعه التاريخية وسط عمال المناجم والصناعات الثقيلة، وما إلى هذا وذاك.
صحيح أنها أسباب تجيب على بعض الإشكالية، ولكن الأصحّ هو أنها لا تتوغل عميقاً نحو أسباب أخرى «مزمنة» تخصّ ما أصاب عقائد الحزبين من جمود أو ترهّل أو تشوّه، جعلهما أقرب إلى وجهَين لعملة واحدة، يقلّبها نظام سياسي وديمقراطي شاخ طويلاً وندر أنه تجدد وتبدّل.
ففي جانب واحد من تفاقم معضلات بريطانيا، حكاية بريكست مثلاً وحمى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (مقابل حمّى أخرى سابقة في سنة 1975، حول انضمامها إلى السوق الأوروبية بمعدّل موافقة وصلت إلى 67.23٪!)؛ تصحّ العودة، مجدداً ودائماً ربما، إلى كتاب دانييل دورلمان وسالي توملنسن «احكمي يا بريطانيا: بريكست ونهاية الإمبراطورية»، الذي يقترح لائحة مفصّلة بحيثيات منطق عالٍ مهيمن يجعل الصلة وثيقة تماماً بين انحسار الإمبراطورية من جهة، واستيهامات البحث عن هوية بديلة تستلهم الماضي التليد أو توحي بإمكان استرجاع بعضه من جهة ثانية. ولم يكن هذا العصاب الجَمْعي يحتاج، كي يزداد اشتعالاً، إلا إلى توقّد تيارات شعبوية جارفة على امتداد القارّة العجوز أوروبا، في فرنسا وهنغاريا وإيطاليا والنمسا، فضلاً عن الشقيقة الكبرى أمريكا دونالد ترامب.
وقد لا تكون أقلّ فائدة، ولا أقلّ صواباً، عودةٌ تمليها الأحوال الراهنة إلى المفكر البريطاني جون غراي؛ مؤلف أعمال إشكالية وسجالية ذات صلة، مثل «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة»، و«يقظة الأنوار: السياسة والثقافة عند خاتمة العصر الحديث»، و«هرطقات: ضدّ التقدّم وأوهام أخرى»، و«روح مسرح الدمى: تحقيق موجز حول الحرّية الإنسانية». ففي مقالة مستفيضة، نشرتها «نيو ستيتسمان» البريطانية بعنوان «إغلاق الذهن الليبرالي»، يبدأ غراي من استعراض المشهد الكوني الراهن (أوروبا، حروب التبادل، دونالد ترامب، فلاديمير بوتين، أمواج اللجوء، الصين…)، كي يبلغ خلاصة أولى تسير هكذا: «النظام الليبرالي الذي لاح أنه ينتشر عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة، يتلاشى من الذاكرة».
ورغم اتضاح هذا التلاشي يوماً بعد آخر، يتابع غراي، فإنّ الليبراليين يجدون صعوبة في مواصلة العيش من دون «الإيمان بأنهم في الصفّ الذي يحلو لهم اعتباره الصواب في التاريخ»؛ وبالتالي فإنّ إحدى مشكلاتهم الكبرى هي عجزهم عن تخيّل المستقبل، إلا إذا كان استمراراً للماضي القريب! وحين يختلف الليبراليون حول كيفية توزيع الثروة والفرص في السوق الحرّة، فالمدهش في المقابل أنّ أياً منهم لا يُسائل نمط السوق المعولَمة التي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبعد الاستفاضة في مناقشة أزمة الليبرالية المعاصرة كما تتجلى في بريطانيا، في محاور أزمات «العمّال» و«المحافظين» واقتصاد البلد ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ يردّ غراي السجال إلى جذور الفكر الليبرالي الحديث، في أنه نتاج متأخر من التوحيدية اليهودية والمسيحية: «من تقاليد هذَيْن الدينَيْن، وليس من أيّ شيء في الفلسفة الإغريقية، نبعت القِيَم الليبرالية حول التسامح والحرية.
وإذا ساد اليقين بأنها قيم كونية، فذلك بسبب الاعتقاد بأنها فرائض إلهية. ومعظم الليبراليين علمانيون في النظرة العامة، لكنهم يواصلون الإيمان بأنّ قيمهم إنسانية وكونية». المعضلة، بعد هذا التوصيف، أنّ الذهن الليبرالي الحاضر عاجز عن الاشتغال إلا إذا أغلق الواقع، أو عرضه كبضاعة أحادية، في… المتجر الليبرالي الوحيد.
سيّان إذن، مع فوارق معتادة لا تبدّل الجوهر، أن يتبادل إدارة المتجر أمثال توني بلير أو بوريس جونسون، وأن يتعاقب خلف منصات الشراء والمبيع أمثال ليز تراس أو كير ستارمر…
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس