الكتاب: "بهدف التحكم في العالم : صعود الإمبراطوريات
والتغيرات الكارثية"
الكاتب: د. ألْفَرد مَكَوي
ترجمة وتقديم: محمد جياد الأزرقي
الناشر: الدار العربية للعلوم- ناشرون،
بيروت- لبنان، لاالطبعة الأولى- أغسطس 2022م
(575 صفحة من القطع الكبير)
كانت الإمبراطورية هي إحدى أعظم أشكال الحكم
البشري في مهد الإنسانية هذا المُسمى بالهلال الخصيب، حيث ظهرت المكونات الأساسية
للحضارة في تتابع سريع نسبياً. ظهرت الزراعة حوالي 8500 عاماً قبل الميلاد وبدأ
استئناس/ تدجين الحيوانات البرية حوالي 8000 عاماً قبل الميلاد، وعلم المعادن البرونزي
عام 4000 قبل الميلاد واختُرِعت الكتابة بحدود 3200 عاماً قبل الميلاد، ونشأت أوّل
امبراطورية في التاريخ على يد سرجون الأكدي عام 2300 قبل الميلاد. وعليه وخلال ستة
آلاف عام فقط، وهي تمثل طرفة عين بالنسبة لمدة ثلاثة آلاف عاماً من تاريخ البشرية،
جاءت الإمبراطورية كنظام حضاري مكتمل بعناصره الأساسية.
قامت أول إمبراطورية في العراق قبل حوالي 4
آلاف عاماً على يد سرجون الأكادي وبسطت نفوذها على منطقة الهلال الخصيب وجزء من
هضبة الأناضول وامتدت من خليج البصرة إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط حتى غزّة. فقد
شهد العالم تعاقباً مستمراً لنحو 200 إمبراطورية، كانت 70 منها كبيرة وعمّرت
لفترات طويلة.
اقترح الدكتور الباحث ألْفرَد وُليَم مكوي،
تقسيم تلك الأربعة آلاف سنة من التاريخ الإمبراطوري إلى ثلاث فترات متميزة، خلال
مرحلة كلاسيكية أولية دامت حوالي ألفي سنة ونصف (من 2300 قبل الميلاد إلى 400
ميلادية) برزت فيها إمبراطوريتا روما والصين. تلتها فترة "خلو العرش" من
(400 إلى 1400 ميلادية) وبرزت فيها حضارات المايا والإنكّور والصينية والبيزنطية،
التي تمثلت في سيطرة الإمبراطوريات الرومانية المقدسة في مناطقها.
كان نفوذها الإقليمي محدوداً وعمرها قصيراً.
حتى الخلافة الأموية، التي جلبتْ فتوحاتها الإسلام إلى شعوب متنوعة من شمال الهند
إلى جنوب إسبانيا، عاشت لفترة أقلّ من 90 عاماً (661 لغاية 750 ميلادية)، وعمر
الخلافة العباسية كان أيضاً قصيراً قبل أن تتفكّك على يد المغول والترك. كان نفوذ
الفرسان بقيادة جنكيز خان وتيمورلنك متفاوتاً على نطاق واسع عبر سهول أوراسيا
ورمالها من 1200 إلى 1400، أما العصر الإمبراطوري الثالث فتشكّل منذ بداية
الاستشكافات البرتغالية في عام 1420 وظهور سلسلة من ثلاثة أنظمة عالمية مرنة تمّ
تصنيف كلّ منها باعتبارها إمبراطورية، وهي الآيبيرية والبريطانية والأمريكية.
قامت أول إمبراطورية في العراق قبل حوالي 4 آلاف عاماً على يد سرجون الأكادي وبسطت نفوذها على منطقة الهلال الخصيب وجزء من هضبة الأناضول وامتدت من خليج البصرة إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط حتى غزّة. فقد شهد العالم تعاقباً مستمراً لنحو 200 إمبراطورية، كانت 70 منها كبيرة وعمّرت لفترات طويلة.
يندرج هذا الكتاب في سياق دراسة صعود
الإمبراطوريا ت المختلفة، وسقوطها، خلال الخمسمئة سنة الأخيرة حتى وقتنا هذا، إذ
ظهرت منذ بداية عصر الاستكشافات في القرن الخامس عشر، حوالي 90 إمبراطورية كبرى
وصغيرة جاءت وذهبت أدراج الرياح. فقد نشأت الأنظمة العالمية الثلاثة جميعها في الغرب، وهي الإمبراطورية
الآيبيرية بعد عام 1494 وتلتها الإمبراطورية البريطانية منذ عام 1815 وعالم واشنطن
منذ عام 1945 لغاية عام 2030.
في هذا الكتاب الضخم، المتكون من مقدمة
طويلة وسبعة فصول كبيرة،ويحتوي على 575 صفحة من القطع الكبير، يقدم فيه عالم
الاجتماع الأمريكي الدكتور ألفرد مكوي
الذي برز كمؤرخ خلال حقبة حرب فيتنام عندما كشف دور وكالة المخابرات المركزية في
تهريب الهيروين في جنوب شرق آسيا، تحليلاً عميقًا لتشكل الإمبراطوريات التي لعبت
أد وارًا تاريخية منذ فجر بزوغ الرأسمالية الميركنتيلية في القرن الخامس عشر و
لغاية اليوم، ويفضح جرائم تلك الإمبراطوريات ضدّ الإنسانية، ولاسيما العبودية
المقيتة وأساليب النعب والاستغلال الاستعماري العنصري الجشع لخيرات الشعوب.
النظام العالمي في ظل الإمبراطورية
الإيبيرية
تشَكَّلَتْ الإمبراطورية في عام 1494، حيث
سبق ولادة هذا النظام العالمي الأول قرن من الأوبئة المعروفة بالطاعون الأسود، إذ
قتل وباء الطاعون الأسود في الفترة 1346 ـ
1353 ميلادية، حوالي 60% من سكان أوروبا والصين، ومزَّق قيود النظام الاقتصادي
والاجتماعي في العصور الوسطى، وأَحْدَثَ
تغيرات في البنية السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية لهيكل
القارة الأوروبية.
فمن تداعيات الطاعون الأسود في أوروبا، في
القرن الرابع عشر، إسهامه في الإطاحةِ بالنظامِ الاقتصادِي الإقطاعيِ، حيث كان
النبلاء في أوروبا يُسيطرُونَ على أراضي شاسعةٍ والفقراء يعيشون فيها عبيدًا
يُمارسونَ الزراعة لمصلحة النبلاء؛ وبعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمالٍ
لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلقٌ كثيرٌ، وأصبح عَدَدَهُمْ قليلًا، فصار العمال
يطالبون بِحُرِّيَاتٍ أكبرَ وحقوقٍ أكثرَ، وصولًا إلى إنهاءِ نظامِ الرِقِّ
والإقطاعِ في أوروبا.
فالطاعون الأسود، شكل الحافز التاريخي
لانتقال أوروبا من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية الميركنتيلية التجارية، لا
سيما مع بداية النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، واهتزاز سلطة الكنيسة،التي
كانت تهيمن على الحياة السياسية والروحية،فها هي تقف عاجزة أمام الطاعون. أنذاك
تعدى تأثيرالطاعون الأسود إلى الدين ،فبدأت حركة الإصلاح الديني.
نعرَّضَ د. مكوي لموضوع وباء الطاعون الأسود
وانتشاره في أوروبا، واستعان بمداخلة مؤرّخ القرون الوسطى، روبرت س. كوتفريد، حيث
أكّد هذا المؤرخ بأنه ظهرت للطاعون الأسود تحوّرات جعلته فريداًمن بين كافة
"الأوبئة القاتلة". ظهرت تلك التحوّرات كل 5 إلى 12 عاماً للفترة بين
1361 حتى عام 1494 في أجزاء من أوروبا وقضت على ما يصل إلى نسبة 20% من مجموع
السكّان. عانت إسبانيا، على سبيل المثال ثماني نوبات من الطاعون، مما أدى إلى خفض
سكان مقاطعة كتلونيا ومدينتها الساحلية برشلونة من 430,000 مواطن إلى 278,000
مواطن عام 1497. خلال القرن التالي، قد تكون العدوى الأولى في أوروبا والتحوّرات
المتكررة، قد كلفت القارة أكثر من 75% من مجموع سكانها، مما جعلها، كما ذكر المؤرخ
ديفد هرليهي، "أشد الكوارث الطبيعية التي ضربت أوروبا تدميراً على
الإطلاق" (ص114).
كشف المؤلف بعد ذلك الدور غير المُشرّف
للكنيسة الكاثوليكية في تقسيم ما وراء البحار ومنطقتي المحيط الأطلسي والمحيط
الهادئ ما بين إسبانيا والبرتغال، ولكونها باركت أفعال الغزاة المحتلين الوحشية
وأجازت لهم استعباد الشعوب الأصلية والقضاء على حضاراتها وطرق معيشتها. "لم
تفعل سلطات الباب ذات الصلة ذلك فقط، بل قسّمت العالم خارج أوروبا بين هاتين
المملكتين، لكنها شكّلت أيضاً أول نظام عالمي في التاريخ من خلال فرض نظام ديني
يفصل بين المسيحيين و(الوثنيّين)، والذي استمر من أجله ثلاثمائة سنة أخرى"
هناك سجل مشين لكافة ما قام به الوحوش القادمون من أوروبا لتكريس استيلائهم على
الأراضي والبشر والخيرات الطبيعية لما سمّوه العالم الجديد.
تشَكَّلَتْ الإمبراطورية في عام 1494، حيث سبق ولادة هذا النظام العالمي الأول قرن من الأوبئة المعروفة بالطاعون الأسود، إذ قتل وباء الطاعون الأسود في الفترة 1346 ـ 1353 ميلادية، حوالي 60% من سكان أوروبا والصين، ومزَّق قيود النظام الاقتصادي والاجتماعي في العصور الوسطى، وأَحْدَثَ تغيرات في البنية السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية لهيكل القارة الأوروبية.
في تناوله لنشوء الإمبراطورية البرتغالية
التي دامت لفترة 6 قرون تقريباً، ذكر الأستاذ مكّوي أنه في بداية استكشافاتها، كان
عدد سكان البرتغال أقلّ من مليون شخصاً وأكبر مدنها لشبونة تضم فقط 40,000 نسمة.
"حتى في ذروة قوّتها الإمبراطورية في القرن السادس عشر، كان لدى البرتغال 300
سفينة فقط، معظم أطقمها من البحارة الأجانب. وقد شيّدت البلاد أسطولها البحري
باستخدام خشب الساج الاستوائي الذي جاءوا به من كَوا، إحدى مُستعمراتهم على الساحل
الغربي للهند" (ص122).
وقدر تعلق الأمر بالعرب والمسلمين، سجّل
التاريخ حدث استيلاء الغزاة البرتغاليين على مدينة سبتة. في عام 1415 قاد الملك
دون جواو أول رحلة استكشافية تألفت من 200 سفينة و20,000 رجل عبر مضيق جبل طارق
واستولى على ميناء سبتة الإسلامية الغنية وبوابة المحيط الأطلسي والمحطة النهائية
للقوافل التي عبرت الصحراء ونقلت الذهب من مناجم السودان ومالي وغيرهما من مناطق
أفريقيا.
"نهب جيش السلالة الحاكمة Avis المدينة
القديمة وقتل نصف سكانها العرب وبيع سكان النصف الآخر كعبيد".
صحيح أن البرتغاليين يتحملون الجزء الأكبر
من مسؤولية تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي ونموها وتطويرها بمباركة الكنيسة
الكاثوليكية، لكن بعض الدول الأوروبية الأخرى كان لها نصيب في تلك الجريمة الإنسانية
البغيضة. وعلى رأس هذه الدول كانت إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والدانمارك،
ذكر تحليل اقتصادي قياسي للزراعة الأمريكية في أوائل القرن التاسع عشر، "أنَّ
مزارع الرقيق الجنوبية كانت أكثر كفاءة بنسبة 35% من المزارع العائلية في شمال
البلاد. من خلال العمل الكادح للفرق الحاشدة من العبيد حتى الموت، عزّزت مزارع
السكر الاستوائية إنتاج طاقة جسم الإنسان، مما خلق منطقاً اقتصادياً قاسياً من
شأنه أن يدفع بلا رحمة أو هوادة توسيع تجارة الرقيق للأربعمائية سنة
القادمة".
هذا وكان تسلسل الولايات الجنوبية الأمريكية
في استقدام العبيد يشمل أركنسا ثم مِزوري والمسيسبي ولويزيانا وألاباما وكنتكي
وتِنسي وأخيراً فرجينيا. وجدير بالذكر أن غالبية من سُمّوا بالآباء المؤسسين
لأمريكا، وفي مقدّمتهم واشنطن نفسه، قد امتلكوا عبيداً وسخّروا للخدمة في مزارعهم.
وعلى ذكر واشنطن، كان قد امتلك 123 من العبيد إلى حين وفاته في عام 1799، وأمر في
وصيته بتحريرهم.
تمكّن البرتغاليون من الهيمنة على المحيط
الهندي الشاسع ببضع عشرات من السفن وعدة آلاف من الجنود، وقدروا على تحييد الملوك
الآسيويين الأكثر قوة، ومن الذين شكلت أرضهم الهائلة جيوشاً من شبه القارة الهندية
الشاسعة التي ضمّت وحدها 150 مليون نسمة.
يقول المؤلف: لكن الإمبراطورية البرتغالية
انهارت حين تولى الملك الشاب سِباستين العرش عام 1578 "فقاد زهرة أرستقراطية
أمّته في حملة صليبية على المغرب، هناك وخلال المعركة المصيرية Alcaccer Quibir أبيد الجيش
البرتغالي على يد القوات المسلمة المحلية. قُتِل حوالي 8 آلاف جندياً برتغالياً
وأُسِر منهم 15 ألفاً، ونجا 100 فقط".
استمرت المعركة 4 ساعات فقط، سُميت أيضاً
معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة. وهي معركة قامت بين بلاد المغرب
الأقصى والبرتغال بتاريخ 4 آب (أغسطس) من عام 1578، تطور الأمر من نزاع على السلطة
بين السلطان محمد المتوكل والسلطان أبو مروان عبد الملك، إلى حرب مع البرتغال
بقيادة الملك سِباتين الذي حاول القيام بحملة صليبية للسيطرة على جميع شواطئ
المغرب، كي لا تعيد الدولة المغربية بمعاونة العثمانيين الكرّة على الأندلس، انتصر
المغاربة، وفقدت الإمبراطورية البرتغالية في هذه المعركة سيادتها ومُلكها وجيشها
والعديد من قادتها. اندمجت الإمبراطورية المهزومة بالإمبراطورية الإسبانية، غير
أنّها استعادت سيادتها الملكية بعد مرور 60 عاماً (ص147).
وهكذا فإنّ الإمبراطورية البرتغالية، التي
قامت على تجارة الرقيق لأكثر من 400 عاماً ونقلت الملايين منهم إلى أوروبا والعالم
الجديد مقيّدين بالسلاسل، هي التي بدأت ذلك العصر اللعين باختطاف 11 رجلاً من
الساحل الغربي لأفريقيا، كانوا مسلمين من الطوارق (الأمازيغ) واستعبدتهم وبيعوا في
ميناء لشبونة، لقد انتهت هذه الإمبراطورية الشريرة على يد المسلمين المغاربة في
معركة القصر الكبير، المشار إليها أعلاه.
يقول المؤلف ألفر وليم مكوي: "من مآثر
الإمبراطورية الإسبانية، أنه خلال نصف قرن من وصول الإسبان، وبفعل الجدري بالإضافة
إلى تجاوزات المستعمرين، انخفض عدد سكان هسبانيولا من الهنود من مئات الآلاف إلى
الصفر تقريباً. وبمعدّل عالٍ أيضاً ولكن لا يزال قاسياً، انخفض عدد سكان المكسيك
تحت الحكم الإسباني من 25 مليوناً في عام 1520 إلى 1.4 مليوناً فقط بحلول عام
1600. وبالمثل كانت الخسائر في مرتفعات برو فادحة. بشكل عام يقدّر أنه من 60
مليوناً إلى 89 مليوناً من الهنود الحمر قد فقدوا حياتهم خلال قرن واحد من الزمن
بين الأعوام 1500 إلى 1600، أي ما يعادل حوالي 15% من سكان العالم.
أفِلت هذه الإمبراطورية الشريرة أخيراً،
وكافة الإمبراطوريات شريرة. لكن إمبراطورية مدريد شريرة بشكل خاص بحكم قضائها على
حضارتين مزدهرتين للسكان الأصليين في المكسيك وهم الأزتك وسكان حضارة الإنكا في
بَرّو. استعبدتهم أولاً ثم جاءت بالأفارقة المخطوفين عبر المحيط الأطلسي للعمل في
الزراعة والتعدين لنهب خيرات القارتين من الفضّة والذهب. انقضت الإمبراطورية بوفاة
ملكها العاجز جنسياً والمختلّ عقلياً، حسب شهادة المؤلف في نهاية فصله الثاني. شرح
ذلك بالقول، "تزاوج آل هابِسبُرك مراراً وتكراراً مع أبناء عمومتهم، ما أصبح
في النهاية شيئاً قريباً من سفاح القربى. على مدى 200 عاماً، كانت هناك 9 زيجات من
أصل 11 زيجة، بين آل هابِسبُرك الأسبان. لم يؤدِ زواج الأقارب بالأسرة الحاكمة هذه
إلاّ إلى الانقراض النهائي في عام 1700".
لإمبراطورية البرتغالية انهارت حين تولى الملك الشاب سِباستين العرش عام 1578 "فقاد زهرة أرستقراطية أمّته في حملة صليبية على المغرب، هناك وخلال المعركة المصيرية Alcaccer Quibir أبيد الجيش البرتغالي على يد القوات المسلمة المحلية. قُتِل حوالي 8 آلاف جندياً برتغالياً وأُسِر منهم 15 ألفاً، ونجا 100 فقط".
في الوقت الذي نالت فيه إمبراطورية لشبونة
قصب السبق في ابتداع تجارة الرقيق وخطفت الملايين من الأفارقة وقيدتهم بالسلاسل
ونقلتهم إلى سواحل العالم البعيدة لاستعبادهم للعمل في المزارع والمناجم، ارتكبت
أختها في مدريد جرائم القتل وتدمير حضارتين مزدهرتين للسكان الأصليين، وهما حضارة
الأزتك في المكسيك وحضارة الإنكا في بِرّو، إضافة إلى نهب المعادن الثمينة في
العالم الجديد. شنّت هذه الإمبراطورية حروباً دينية وطائفية لا هوادة فيها ضدّ
المسلمين الكفرة وإمبراطوريتهم العثمانية وضدّ الهولنديين الزنادقة ومذهبهم
البروتستانتي. وبعد محاكم التفتيش وقعت أوروبا في حرب طائفية استمرّت 30 عاماً.
صعود امبراطورية التجارة ورأس المال
الهولندية
سقطت الإمبراطورية الشريرة أخيراً على يد
الهولنديين البروتستانت، الذين ما كان عددهم أكثر من مليون نسمة ولكن خاضوا مقاومة
ضدّ الإسبان استمرت لأكثر من 80 عاماً. وبرأي المؤلف، أنه بدلاً من توسيع أفكارهم
الأولية عن حقوق الإنسان والحرية لتشمل غير الأوروبيين والقوى البروتستانتية
الصاعدة في إنكلترا وهولندا، توسّعت تجارة ا لرقيق الآيبيرية إلى مستوى غير مسبوق
وجُعل العمل القسري مركزاً لبناء الإمبراطورية الناشئة، وبدلاً من تحدي المفهوم
الآيبيري للسيادة الإمبراطورية واختصاصها في الغزو الإقليمي، احتضنت أمستردام
ولندن فكرة الاستحواذ على مناطق شاسعة في أفريقيا وآسيا والأمريكتين.
طرح د. مكّوي في فصله الثالث صورة مختلفة
للإمبراطورية الهولندية الفتية، التي نشأت على أنقاض إمبراطوريتي آيبيريا. سرعان
ما أدت ديناميكية مدينة أمستردام إلى مجموعة من الابتكارات المالية، التي جعلتها
تدخل التاريخ، كما صاغها جان دي فريس "كغرفة للتجارة العالمية". أخذ بنك
أمستردام الودائع وحوّل الأموال عبر الحدود الوطنية وجمع فيما بعد كمّيات هائلة من
المعادن الثمينة في خزائنه، مما جعل المدينة "خزينة أوروبا للذهب
والفضة". كما أن شركة التأمين البحري، عرضت تغطية لعشرات الوجهات الخطيرة،
بينما هيّأت الصحيفة الرئيسية لتجار المدينة معلومات مهمة حول أسعار البضائع
القادمة من الشواطئ البعيدة، كما أسّست أمستردام أوّل بورصةٍ في العالم، لتصبح
"المركز العصبي للاقتصاد الدولي بأكمله".
وأصبحت مدن هولندا الأخرى مراكز فكرية حيوية
ذات ريادة للمتخصصين في القانون والطب والعلوم واللاهوت والفنون الجميلة. وهذا
يختلف اختلافاً جذرياً عما جرى على يد كُل من لشبونة ومدريد، حيث «قامت محاكم
التفتيش في هولندا عام 1523 بحرق اثنين من الرهبان الأوغسطينيين في بروكسِل بتهمة
الزندقة، وبحلول انتهاء وقت محاكمات التفتيش في عام 1576، تمّ الإعدام العلني
لحوالي 1300 بروتستانتيا، وقاسى آلاف آخرون أشدّ صنوف التعذيب بسبب معتقداتهم
الدينية(ص209).
كان العصر الذهبي الهولندي خلال القرن
السابع عشر غير عاديّ بكثافته واتساعه، مثّلت أمستردام عاصمة هولندا المتحدة
وتجارتها العالمية، وتمتّعت بدفعات من الإبداع في كلّ مجال تقريباً من الجهد
البشري، شملت هذه التمويل والتجارة والصناعة والشحن والحرب والطبّ والعلم والحكم
والقانون والفنون. لكنّ د. مكوي يعيد إلى أذهاننا، "إن انحدار القوة
الإمبريالية الهولندية كان بمثل سرعة صعودها. بعد نصف قرن فقط من وصول البلاد إلى
ذروتها حوالي 1650، فقدت هولندا قيادتها العالمية بسبب مزيج من التغيّرات المحلية
والانعكاسات الدولية". في أواخر القرن السابع عشر خاضت القوتان الهولندية
والإنكليزية أربع معارك دامية في بحر الشمال، استمرت كل منها لعدة سنوات، حول حرية
الملاحة في البحار والمحيطات وطرق التجارة.
في الوقت الذي استمر فيه القتال لتهديد بقاء
هولندا وسيادتها، سعى وُليَم أورنج، الذي كانت زوجته ماري الابنة الكبرى لملك
إنكلترا، إلى تحالف دائم من خلال محاولة محفوفة بالمخاطر لكنّها وضعت زوجته على
العرش الإنكليزي. في نفس الوقت كان النبلاء البروتستانت في إنكلترا يخشون أن الملك
جيمس الثاني كان يُخطط لإعادة الكاثوليكية للبلاد، فدعوا وليم أورنج البروتستانتي
الهولندي لغزو بلادهم. "بعد تعبئة أذهلت سرعتها الدبلوماسية المراقبين، عبر
وليم القتال بأسطول يزيد عن 400 سفينة نقل و53 سفينة حربية تحمل 40000 رجلاً بينهم
21000 رجلاً من القوات الهولندية مع خيولهم ومدفعيتهم، حين وقفت الأفواج على ظهور
السفن تشكّل موكب صاحبه نفخ الأبواق وهبوط الجيش الهولندي دون معارضة على الساحل
الجنوب الغربي لإنكلترا، حشد الملك جيمس الثاني جيشاً للدفاع عن مملكته، لكنّ
العديد من قوّاته انشقت وانضمّت إلى الهولنديين".
ثم يمضي د. مكوي للقول أنه، "نتيجة
لذلك، زادت واردات الأسلحة النارية إلى غرب إفريقيا بمقدار 10 أضعاف وقابلها
ارتفاع بمقدار 5 أضعاف من صادراتها من العبيد، لتصل إلى مستوى الذروة التاريخية في
ثمانينات القرن الثامن عشر عند 77000 أسيراً سنوياً". هذا إضافة إلى تشكيل
فرق المرتزقة من الأوروبيين والمحليين المسلحين بالبنادق لملاحقة و"اصطياد"
السكان في مناطق الأحراش والغابات وبيعهم لوكلاء الشركات كي يتمّ شحنهم عبر
الأطلسي.
دخلت أوروبا عصر الثورات التي اجتاحت جانبي
المحيط الأطلسي، في أوروبا والأمريكتين. أطلق هذا العنان لثورات كان من شأنها خلال
قرن من الزمن أن تزعزع أسس الأنظمة الاستبدادية. استنفذت حرب الإسبان ما بين
السنوات 1701 لغاية 1714 طاقات أسرة آل هابِسبُرك لفرض الهيمنة على القارة. كما أن
حرب السنوات السبع التالية اعتباراً من 1756 لغاية 1763 أعاقت طموح النظام الملكي
الفرنسي لفرض ذلك الوضع المماثل. وفي مطلع القرن التالي جرت حروب نابليون المدمرة
بين السنوات 1796 لغاية 1815. وهي الحروب التي كان من شأنها أن تزعج أوروبا بدرجة
كافية حفّزت ظهور قوة بريطانيا ونظامها العالمي الجديد. "بحلول نهاية الحقبة
الثورية، فقدت فرنسا كافة كندا وفقدت بريطانيا المستعمرات الأمريكية، الثلاثة عشر
وفقدت البرتغال امتدادها الشاسع في البرازيل وفقدت إسبانيا معظم دول أمريكا
اللاتينية (ص236).
يتبع..