نشرت صحيفة
"لوموند" الفرنسية تقريرًا تحدثت فيه عن "أوبي"، وهو نظام دفع تم إطلاقه في
الهند في سنة 2016 يسمح للمستخدمين في الوقت الفعلي بتحويل الأموال مباشرةً من حساب مصرفي إلى آخر، يستخدمه اليوم حوالي 260 مليون شخص في الدولة التي يبلغ تعداد سكانها 1.4 مليار نسمة.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن واجهة الدفع الموحدة "أوبي" التي تعتبر "بنية تحتية عامة رقمية" صُمّمت من قبل شركة المدفوعات الوطنية الهندية، وهو نظام يدمج أكثر من 300 بنك ويتيح خدماته عبر أكثر من ستين تطبيقا للهاتف المحمول مثل غوغل باي وأمازون باي إلى جانب التطبيق الهندي الشهير للمدفوعات "باي تي إم".
وحسب أميتاب كانط، الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة الأبحاث "نيتي أيوج"، فإن "الحكومة والقطاع العام عمِلا على بناء أسس نظام فوري مفتوح المصدر من شأنه تمكين القطاع الخاص من الابتكار والمنافسة في السوق".
محاربة غسيل الأموال
في سنة 2019، أشادت غوغل بهذا "النموذج الهندي" وأوصت بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي كان يعمل بنظام الدفع الفوري الخاص به، بأن يستلهم نموذج واجهة "أوبي" للدفع. في هذا الصدد، قال قيصر سينغوبتا، نائب رئيس قسم المدفوعات في غوغل: "لقد قلنا بوضوح إننا نعتقد أن النموذج الصحيح لتشجيع المدفوعات الرقمية يمر من خلال الشراكة بين البنوك والحكومات وشركات التكنولوجيا عبر البنى التحتية مفتوحة المصدر القائمة على المعايير مثل 'أوبي'".
ذكرت الصحيفة أن النّقد لا يزال يحتل الصدارة في الهند، إلا أن ذلك لم يمنع البلاد من تحقيق قفزة هائلة إلى الأمام من حيث رقمنة اقتصادها. ففي غضون ست سنوات، أصبح "أوبي" طريقة
الدفع الرقمية المفضلة للهنود متفوقا على بطاقات الخصم والائتمان. وفي الربع الثاني من سنة 2022، أجريت 17.4 مليار معاملة مع أوبي بزيادة قدرها 118 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وذلك وفقا لتقرير صادر عن شركة "وورلد لاين" الفرنسية متعددة الجنسيات المتخصصة في خدمات الدفع عبر الإنترنت.
وأوردت الصحيفة أن الهند تبنت طرقا جديدة للدفع عبر الهاتف المحمول يستخدمها الجميع تقريبا، من بائعي جوز الهند إلى سائقي عربات الريكاشة، وصولا إلى أكبر فندق فخم في العاصمة. يعود هذا التحول في المقام الأول إلى سياسة شيطنة الأوراق النقدية الهندية التي فُرضت في سنة 2016 عندما سُحبت الأوراق النقدية الرئيسية من التداول لمكافحة غسيل الأموال. وقد ساهم هذا القرار الذي كانت له آثار كارثية على الاقتصاد الهندي في اعتماد وسائل الدفع الرقمية.
ساهمت جائحة كوفيد-19 في تسريع حركة الرقمنة أيضًا. يوضح ساتيا براكاش ميشرا، وهو صاحب متجر في جنوب نيودلهي، "لقد لجأت إلى استخدام "أوبي" خلال فترة الإغلاق الأولى التي بدأت في آذار/مارس 2020. كنت أفقد العملاء الذين أصبحوا يتجنبون استخدام النقود للحد من التواصل المباشر. لهذا السبب، طلبت من بقية التجار في الحي أن يشرحوا لي كيفية استخدامها، وكان الأمر بسيطا للغاية". ومن المزايا العظيمة لـ "أوبي" أنه مجاني للعميل والتاجر فضلا عن كونه أسرع من الدفع بالبطاقة.
وأكدت الصحيفة أن الهند تسعى إلى تطوير وسائل الدفع في الخارج. ففي سنة 2020، أنشأت شركة المدفوعات الوطنية الهندية شركة فرعية مكرسة لنشر خدمة "أوبي" خارج حدود شبه القارة الهندية، وأطلقت برنامج "رو باي" - وهي شبكة لبطاقاتها المصرفية المحلية - المشابه لخدمة "يونيون باي" الصينية أو نظام الدفع الروسي "مير". وفي الأشهر الأخيرة، ضاعفت الهند اتفاقياتها مع شركاء أجانب إذ أعربت 30 دولة بالفعل عن اهتمامها بنظام "أوبي". ومن بين الأسواق المستهدفة بلجيكا وهولندا وسويسرا، فضلا عن التعاون مع المملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة.
ومن خلال شبكة "ليرة" للدفع، يمكن للسياح الهنود استخدام هذا النظام في فرنسا لإجراء معاملاتهم المالية. ويقرّ كريستوف مارييت، المدير التجاري لمجموعة "ليرة"، بأن "أوبي نظام تحويل فوري أكثر كفاءة من نظامنا". لكن الدفع عن طريق "أوبي" لن يكون متاحا في فرنسا قبل الربع الأول من سنة 2023.
تحويل الأموال إلى الوطن
ذكرت الصحيفة أن تطوير نظام الدفع الفوري من شأنه أن يسمح للعمال الهنود في الخارج بإرسال الأموال إلى الوطن. ولا توجد دولة أخرى في العالم تتلقى هذا القدر من التحويلات الخارجية من عمالها المغتربين. ووفقا للبنك الدولي، تلقى عملاق جنوب آسيا أكثر من 100 مليار دولار من التحويلات في سنة 2022، وهو مبلغ سنوي غير مسبوق لدولة واحدة.
نقلت الصحيفة عن السفير الهندي في فرنسا جواد أشرف أن "تصدير واجهة الدفع الموحدة "أوبي" سيسمح لعدد متزايد من الهنود الذين يسافرون إلى الخارج بإجراء معاملاتهم المالية بسهولة وسيسهّل على 32 مليون هندي يعيشون في الخارج - بما في ذلك ثمانية ملايين في الخليج - تحويل الأموال. سيكون لديهم الآن القدرة على إرسال الأموال في أي وقت طيلة أيام السنة، بدلا من الذهاب إلى البنك".
تسعى الهند أيضًا إلى تصدير هندستها المعمارية الرقمية المعروفة باسم "الهند ستاك"، التي تتضمن نظام الدفع عبر الهاتف المحمول "أوبي" ومعرف المقيم الرقمي "آدهار". وفي أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قال وزير المالية الهندي نيرمالا سيترامان خلال مؤتمر في الولايات المتحدة إن "الثروات الرقمية الهندية متاحة لأي دولة تحتاج إليها. في وقت ما كانت الهند في حاجة إلى اللحاق بالركب وتبني المعايير العالمية. ولكن على الصعيد الرقمي، سواء من حيث برامج الدفع أو الهوية أو الصحة أو التعليم، وفي إطار الاهتمام بمتطلبات التأقلم، حددت الهند في الواقع عدة معايير".
وأشارت الصحيفة إلى أن نيودلهي تعتزم استخدام رئاسة مجموعة العشرين كمرحلة للترويج للبنية التحتية للمدفوعات الرقمية، في المقام الأول إلى البلدان النامية. يتفاخر أميتاب كانط بأن "الأسواق الناشئة مثل الهند أنشأت نموذجا جديدا وفريدا تماما"، مشيرا إلى أنه يمكن لأكثر من 130 دولة، التي لا تستطيع الوصول إلى أنظمة الدفع الفوري، أن تستلهم من هذا النموذج.
وحسب محلل الخدمات المالية في شركة "فورستر"، بوشبا ماروال، فإنه "إذا كان لدينا الطموح لجعلها أداة عالمية، سيتعين علينا التأكد من أن النظام الأساسي آمن". وقد اعتمدت الحكومة الهندية على هذه البنية في التحويلات المباشرة لبرامجها الاجتماعية. لكن النظام أثار مخاوف خطيرة بشأن حماية البيانات والمراقبة، وانتُقِد بشدة من قبل اقتصاديي التنمية، بعد أن وجد العديد من المستفيدين أنفسهم مستبعدين بسبب مشاكل تحديد الهوية.
وذكرت الصحيفة أن نيبال ستكون الدولة الأولى التي تعتمد على البنية التحتية الهندية لتطوير نظام الدفع الفوري الخاص بها. وسيفتح هذا التعاون الباب للتحويلات المالية الدولية الفورية بين البلدين.
"الجانب الجيوسياسي"
أعلن البنكان المركزيان في الهند وسنغافورة عن نيتهما ربط نظام الدفع عبر الهاتف المحمول السنغافوري "باي ناو" ونظام "أوبي"، ما سيمكن المستخدمين في كلا البلدين من إجراء تحويلات مالية فورية مباشرة من حساب مصرفي إلى آخر. وحسب بوشبا ماروال فإنه "من خلال مضاعفة الشراكات الدولية، يمكن أن يصبح نظام "أوبي" بديلا لنظام
سويفت (الذي يربط بين البنوك) الذي يحتكر وسائل الاتصال المصرفية العالمية".
وفي خضم الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يرى البعض أن تعزيز الهندسة المالية الهندية أصبح يتجاوز مساعي تعزيز القوة الناعمة. فهل ستتمكن الهند، التي تدعي حيادها في هذا الصراع، من تقديم بديل لنظام سويفت لتنفيذ المعاملات بين الدول؟
في سنة 2018، قبل فترة طويلة من العدوان الروسي على أوكرانيا، طرح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي فكرة استخدام شبكات الدفع الدولية كأدوات للدولة. ووفقا لتريشا راي، مديرة مركز الأمن والاستراتيجية والتكنولوجيا في مؤسسة "أوبسرفر" للأبحاث، "لم يكن الجانب الجيوسياسي في بادئ الأمر في أذهان القادة الهنود، ولكن مع الصراع الروسي الأوكراني، أصبح القلق من رؤية المؤسسات المالية رهينةً أمرًا حقيقيا". وأضافت أن "العديد من الدول الأفريقية أثارت مخاوف مماثلة بشأن حيادية المؤسسات المالية".
وفيما يتعلق بعمل السلطات في الهند على منافسة الأنظمة القائمة، يقول السفير الهندي جواد أشرف: "نحن لا نتطلع إلى تطوير أي مسار آخر غير شبكة الاتصالات المصرفية، ولكن لا نريد أيضا أن يكون سويفت أداة لمنع وصول دول معينة إلى البورصات الدولية"، مؤكدا أن "الهدف من نظام "أوبي" هو إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى أنظمة الدفع الرقمي وتعميمها، خاصة بالنسبة للقطاعات المهمشة في المجتمع. وقد أبدت العديد من الدول الغربية ووكالات التنمية اهتماما بهذا الحل، خاصة دول القارة الأفريقية".