مواطن
مصري، طريف الروح واللسان، سوف يعدّد ألقاب العملة الوطنية خارج تسمية
الجنيه الرسمية، على النحو الآتي: هو "الأهيف" أيام زمان، لأنه كان رهيفاً مهفهفاً؛ وهو "اللحلوح"، لاحقاً، لأنه كان يحلحل أحوال المصريين؛ ثمّ مال البعض إلى اعتباره "الجندي"، حين قبض اقتصاد العسكر على أقداره؛ وتوجّب أن ينتهي إلى "الملطوش"، ربما لأنّ عملات الكون بأسرها تناوبت عليه لطشاً ولطماً.
ومنذ آذار/ مارس 2022، وصولاً إلى أواخر تشرين الأول/ نوفمبر من العام ذاته حين أعلن البنك المركزي المصري تعويم العملة الوطنية، فقد "الملطوش" إياه 70% من قيمته؛ على خلفية أولى تشير إلى أنّ نظام عبد الفتاح
السيسي رفع الرايات البيضاء، جمعاء، أمام صندوق النقد الدولي؛ وخلفية ثانية، متلازمة تماماً، تسجّل حقيقة أنّ سعر الصرف المعلَن هو 29 جنيهاً، وأمّا نظيره في السوق السوداء (واقتصاد القطاع الخاص تحديداً) يتراوح بين 30 إلى 35 جنيهاً.
انحدار الجنيه أخذ يُلحق الأذى بقطاع عزيز على النظام، أي المؤسسة والعسكرية وميادين استثمارها واقتصادها إجمالاً
الجديد اللافت في هذه الظاهرة، غير الجديدة أو غير الطارئة في الواقع، أنّ انحدار الجنيه أخذ يُلحق الأذى بقطاع عزيز على النظام، أي المؤسسة والعسكرية وميادين استثمارها واقتصادها إجمالاً، وفي عدادها ما تُسمّى "المشاريع القومية" التي استهلكت 4 تريليونات جنيه مصري (أي أكثر من 200 مليار دولار) أتت عبر التمويل الحكومي، خلال سنوات 2014 إلى 2019.
وكان السيسي قد أصدر القرار 446 لسنة 2015، الذي مكّن القوات المسلحة من تأسيس مختلف الشركات الإنشائية والاستثمارية، منفردة على نطاق الجيش أو بالشراكة مع القطاع الخاص ورأس المال الوطني الأجنبي؛ وتلك خطوة أتاحت المزيد من أنساق نهب الثروة الوطنية واستهلاكها لصالح جنرالات النظام وشركائهم المحليين والأجانب. ولأنّ أجهزة السيسي الأمنية ليست أقلّ من امتداد عضوي للمؤسسة العسكرية، فإنّ شركة مثل "وادي النيل" تابعة مباشرة لإدارة المخابرات العامة، تمارس أعمال المقاولة والاستثمار في قطاع المشافي على نحو خاصّ.
وفي تقرير مسهب، لصالح مركز مالكولم كير – كارنيغي، صدر سنة 2020 تحت عنوان "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"؛ يبيّن يزيد صايغ أنّ توسّع النشاط الاقتصادي العسكري يخدم نموذج رأسمالية الدولة الذي دأب السيسي على إقامته وتعزيزه، عبر خمسة مجالات: "التطوير العقاري، وإنشاء مجمّعات الصناعة والنقل، واستخراج الموارد الطبيعية، والعلاقات مع القطاع الخاص، وزيادة رأسمال القطاع العام بواسطة
الاستثمارات الخاصة".
صحيح أنّ المجالات الثلاثة الأولى "تستنسخ جوانب من الاقتصاد الريعي في عهد الرئيس السابق حسني مبارك"، يتابع صايغ، إلا أنّ "المجالين الأخيرين يشكلان تحولاً أكثر جوهرية"، يؤكد تصميم السيسي على "توليد رأس المال عبر استخدام القوة المركّزة للدولة، ورأس حربتها المؤسسة العسكرية".
وهكذا، على أصداء قرارات البنك المركزي المصري بتعويم الجنيه، وتعاقب انهياراته أمام الدولار، سارعت صناديق سيادية مالية أجنبية إلى مطالبة النظام باللجوء إلى مبادلة الديون بأصول الدولة، وبينها تلك التي تملكها المؤسسة العسكرية، الأمر الذي دفع السيسي شخصياً إلى مناقشة حراجة الوضع مع جنرالاته المقرّبين المعنيين باقتصاديات الاستثمار العسكري؛ وكان طبيعياً، أو غير لافت البتة، أن يشارك في الاجتماعات ألوية قادة للاستخبارات العسكرية وإدارات المعلومات والإشارة والتسليح.
هذه المحطة الفاصلة، الأحدث في 10 سنوات من انقلاب السيسي، سبقتها محطات مثل الدوس على الدستور ذاته الذي هندسه السيسي وأعوانه، وفرض تعديلات تجعله حاكماً أوحد حتى العام 2030، وبيع جزيرتَيْ تيران وصنافير، ومساخر انتخابات الكومبارس الرئاسية سنة 2018، وهزال الأداء في ملفّ سدّ النهضة وانحباس النيل… وإذْ تهبط العملة الوطنية اليوم إلى سافل سافلين، فالأرجح أنّ المواطن المصري، طريف الروح واللسان ذاته، سوف يواصل الاكتواء بنيران الغلاء والتضخم وانحطاط الصحة والتعليم والغذاء، ولعله سيرأف بحال "ملطوش" تعس، لم يعد له من اسمه… نصيب!