قضايا وآراء

العشرية السوداء.. على باب الوزير"ين" (4)

- أ ف ب
أثير لغط كثير حول اللقاءات التي قام بها عمر سليمان نائب الرئيس مبارك قبل خلعه مع القوى السياسية، ولعل أشهر ما قيل في ذلك أن الإخوان خانوا الثورة عندما استجابوا لدعوة عمر سليمان، وقد مثلهم في اللقاء الموسع كل من د. محمد مرسي عليه رحمة الله ود. سعد الكتاتني فك الله أسره.

والحقيقة أن الرجلين مثّلا تنظيم الإخوان المسلمين بصفته أكبر تنظيم سياسي في الساحة وقتئذ رغم أنه لم يكن يمتلك أعضاء في برلمان 2010 المزور؛ الذي وكما ذكرت نصح عمر سليمان مبارك بعد هذه الانتخابات بالتريث وعدم الذهاب لافتتاح جلسته الأولى لأنه برلمان مشكوك في صحته ونزاهته، وهو ما تبين صدقه بالثورة وبتصريحات مبارك نفسه قبل خلعه.

مع اندلاع الثورة وزيادة الضغوط على مبارك وأركان حكمه، كانت الخطة واضحة وهي الدفع بعمر سليمان للتحدث مع القوى السياسية الثورية والتقليدية لجس النبض وإرسال رسائل؛ كان أبرزها إما أن تستجيبوا لما نعرضه عليكم أو فالانقلاب العسكري قادم (راجع ما كتبه عبد الرحمن يوسف عن لقائه مع بعض رفاقه من شباب الثورة مع عمر سليمان الذي حذرهم من وقوع انقلاب إذا أصروا على انتهاء صلاحية مبارك، وقد رد عليه عبد الرحمن "ليكن"). وهذا جزء مما كتبه عبد الرحمن يوسف في مقاله المعنون بـ"يوميات ثورة الصبار- 9" والمنشور بتاريخ 19 نيسان/ أبريل 2011 في جريدة المصري اليوم:

وخلاصة هذا الاجتماع كانت كالتالي:

"قلنا (مصطفى وياسر وأنا) إنه لا مجال للتنازل عن رحيل مبارك. وكان رد السيد سليمان أن مبارك بطل حرب أكتوبر، ولا جدوى من هذا الطلب. قلنا له: إذن.. لا يوجد حل، وسنستمر في التصعيد. فرد: إذا أصررتم على هذا الطلب، سيرحل الرجل، وسوف يسلم البلد لإدارة عسكرية، وسنعود إلى نقطة البدء التي كانت في عام 1952..! قلنا له: موافقون.." انتهى الاقتباس.

كان النظام يناور كثيرا لمعرفة حقيقة من يدير الأمور على الأرض ومعرفة حقيقة تماسك أو وحدة هذه القوى الثورية، وبالتالي يبني استراتيجيته للتعامل وفقا لذلك، وذلك عكس القوى الثورية التي لم يجمعها شيء سوى الميدان والهتاف، وحتى هذا الأخير اختلفت نبرته ومفرداته لاحقا.

في نفس المقال المشار إليه ينقل عبد الرحمن يوسف ما قاله د. مصطفى كامل السيد عن عدم وجود رأس يمثل الثورة:

"قال مصطفى للسيد عمر سليمان هذه الثورة جسد بلا رأس، ولا تستطيع أي قوة أو شخص أو حزب أن يزعم أنه يستطيع فض اعتصام ميدان التحرير بمن فيهم الإخوان، وتستطيع أن تسأل الدكتور الكتاتني نفسه، وأشار إليه فأومأ الكتاتني برأسه موافقا على كلام مصطفى" انتهى الاقتباس.

كلنا يذكر أن هذا الاجتماع كان موسعا وحضره الجميع من يلزم ومن لا يلزم، حتى أن عبد الرحمن كتب مستهجنا أو مندهشا من أنه حتى لما طلب هو ومصطفى النجار فرج الله كربه وأسره أن يجتمعا منفردين مع عمر سليمان بعد الاجتماع الموسع، لاحظا وجود رجل وامرأة لا يعرفهما أحد، وتم تقديمهما على أنهما من شباب الثورة.

لا ينكر أحد مشاركة الجميع تقريبا في الحوار مع عمر سليمان وطبيعي أن يحدث حوار مع الرجل الثاني في السلطة، ومن الطبيعي أن يدافع عمر سليمان عن النظام ويصر على عدم رحيل مبارك، ولكن غير الطبيعي أن يذهب الجميع فرادى أو أشتاتا بدون أجندة متفق عليها أو على الأقل مطالب لا يمكن التفاوض عليها وأخرى يمكن التفاوض بشأنها.

وتقديري أن الجميع شكك في الجميع، وخاف الكل من الكل، فالإخوان كان تقديرهم أنهم الأكثر ابتلاء والأكثر عطاء وبالتالي فيجب النظر إليهم على أنهم الأخ الأكبر، والشباب يرون أن الثورة بدون الشباب لم تكن لتحدث أبدا وأن دور الإخوان لاحق وليس سابقا، وبالتالي على الجميع احترام صوت الشباب، والسلطة كانت تخشى الإخوان لقوة تنظيمهم وهو ما يفتقده الشباب، لذا كانت النغمة السائدة ولا تزال بعد اثني عشر عاما هي أن الإخوان اختطفوا الثورة وضيعوها.


وربما كان هذا الافتراض صحيحا عندما قرر الإخوان الدفع بمرشح من بين رموزهم لكي يخوض انتخابات الرئاسة وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه، لكن: لو تم الدفع بمرشح آخر من الثوار هل كان سيحظى بالقبول عند الترشح أو بفرص النجاح كرئيس دولة منتخب في بلد تحكمه عصابة الثالوث التي تحدثت عنها في المقال السابق؟

عموما لقد أدار عمر سليمان الحوار بالطريقة التي كان يريدها النظام وأوصل الرسالة بأدب واحترام مدحه عليه الكثيرون ممن التقوا به: "ولكن هذا لا يمنع أن عمر سليمان رجل دولة، وهو رجل دولة من النوع الماكر صعب المراس، وجهه يشبه بوابة مصفحة مضادة للرصاص عازلة للصوت، فأنت لا تستطيع أن ترى ما خلف وجهه إلا ما يريد لك هو أن تراه، لقد جلس معنا بمنتهى الثقة والثبات، وعلمنا -فيما بعد- أنه قد تعرض لمحاولة اغتيال قتل فيها بعض حراسه قبل أن يجتمع بنا بعدة ساعات، وهذا يوضح أي نوع من الرجال هو" (نفس المصدر السابق).

ونأتي للرجل الثاني الذي كان يختبئ خلف الستار في المجلس العسكري وهو عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات العسكرية، شأنه شأن عمر سليمان قبل أن يتولى المخابرات العامة ومنصب نائب مبارك في 2011. فعلى عكس عمر سليمان الذي كان يدافع عن النظام، كان السيسي يدافع عن الثورة ويعتبرها شيئا جميلا وحدثا عظيما، حتى أنه ومن فرط حبه لها تمنى أن تحدث قبل خمسة عشر عاما من وقوعها بكثير.

بالطبع هناك وقائع حدثت على الأرض وهي خلع مبارك ولم يجد رأس النظام من يدافع عنه، بل جاء وقت توزيع التركة والبحث عن طريقة لتفتيت الصف الثوري بطريقة ناعمة. وهنا لا بد من استعادة الأسطوانة إياها "أنتم الشباب الثوري الجميل والنقي، وأوعوا الثورة تسرق منكم". وبدأ السيسي ممثلا عن المجلس العسكري الحاكم (وضَعْ تحت الحاكم ألف خط) في فصل الثوار عن الإخوان وإقناعهم بأنهم يستحقون أن يقودوا الثورة، وبالأحرى ابتعدوا عن الإخوان أحسن لكم..

وبمراجعة ما قاله بعض الثوار والساسة والمثقفين في وصف السيسي بعد لقائهم معه سواء في هذه الزيارة أو غيرها، يتأكد للجميع أن الرجل ضحك على الجميع بمن فيهم الإخوان كما ضحك على الثوار، وإن كانت كلفة خيانته للإخوان أعلى بكثير وطويلة المدى وعميقة الأثر ليس على الإخوان فقط بل على مصر بأسرها. والغريب أن بعضا ممن اعتبروا السيسي مؤيدا للثورة أيدوه في انقلابه، واليوم يبكون ألما وندما من جراء هذا التأييد، لكنهم لا يزالون يرفضون فكرة أن الإخوان كانوا مثلهم ضحية خيانة تم الترتيب لها بدقة وعناية.

يمكننا العودة إلى ما قاله الإعلامي المعروف يسري فودة في حوار مع صحيفة الشروق المصرية عن انطباعاته بعد لقاءاته مع السيسي في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، أي بعد أشهر قليلة من انقلاب تموز/ يوليو 2013، وجاء فيه ردا على سؤال عن علاقته بالسيسي الذي وصفه الصحفي الذي أجرى المقابلة بأنه صديق له؛ قبل أن يسأله هل تعلّم من أخطاء المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير؟

أجاب يسري فودة: "التقيت الفريق أول عبد الفتاح السيسي ثلاث مرات فقط، منها مرة في مرحلة مبكرة جدا من ثورة 25 يناير خلال الـ18 يوما الأولى مع مجموعة من الزملاء الإعلاميين والمثقفين، ثم التقيته مرتين أخريين خلال العامين الماضيين، وكان رأيي فيه من أول يوم مثل كثيرين أنه إنسان مهني وطني، ولديه القدرة على رؤية عميقة للمجال الذي يعمل به، وأنه استطاع أن يرتفع بمعنويات القوات المسلحة بعد فترة مؤلمة مرهقة سواء من وجهة نظر المؤسسة العسكرية أو من وجهة نظر الشارع الثوري أيام المجلس العسكري السابق. وفي نفس الوقت أدرك تماما لماذا ارتفعت شعبيته إلى هذا الحد بعد 30 يونيو، وفي اعتقادي أن الأسابيع والأشهر القليلة القادمة ستسفر لنا عن الكثير، لكن لديه قدرة على قراءة الموقف بشكل عميق، وانتخاب القرار الصائب في اللحظة الصائبة".

خذ مثالا آخر وهو الروائي علاء الأسواني، وهو روائي مشهود له وبالطبع لديه خيال سياسي أوسع بكثير من أقرانه وربما من الإخوان كما يرى البعض، يقول في مقابلة أجرتها معه قناة بي بي سي، وأنا هنا أنقل عن تقرير نشر في موقع ساسة بوست: "التقيت مع اللواء السيسي واللواء العصار بعد الثورة، واتكلمنا، وأخذت انطباعاً من واقع هذه المقابلات أن المجلس العسكري كان مع الثورة تماماً، حتى أني في هذه الجلسة أوضحت لهم أهمية الأخذ في الاعتبار الوسائل التاريخية للثورة المضادة، وتعاملوا مع ذلك بجدية، وأخذ يكتب لمدة 30 دقيقة هذه الوسائل كدليل على الاهتمام بذلك".

لقد نجح السيسي في تقديم نفسه على أنه صديق الثورة وصدّقه الجميع، ولكن بالطبع ما علق في الذهن هو اختيار الرئيس مرسي للسيسي لكي يكون وزيرا للدفاع "بنكهة الثورة".

نجح السيسي في تقديم نفسه على أنه صديق الثورة وصدّقه الجميع، ولكن بالطبع ما علق في الذهن هو اختيار الرئيس مرسي للسيسي لكي يكون وزيرا للدفاع "بنكهة الثورة"

في تقرير للجزيرة نت نشر في 19 آذار/ مارس 2015 تحت عنوان "صورتان توضحان علاقة السيسي بالشباب والثورة"، جاء فيه على لسان محمد عباس وهو أحد أبرز رموز شباب الثورة المصرية، واصفا السيسي بعد لقائه معه في شباط/ فبراير 2011، وأكد حرصَ السيسي خلال لقائهم به إبان ثورة يناير "على الظهور بمظهر المتصوف، ورغم قلة حديثه فإن العداء التاريخي بين العسكريين والإخوان ظهر في تحذيره للموجودين من أن الإخوان يسعون لسرقة الثورة".

لقد باع السيسي تصوفه الزائف وتعاطفه المكذوب للجميع، من وقفوا ببابه أو من وقف هو على بابهم مقدما نفسه على أنه الأخ والصديق وأنه منهم وهم منه، لدرجة أنه كان يتودد لبعض الوزراء في حكومة هشام قنديل مرددا: متى ستطبقون الشريعة؟ كما أرسل زوجته لحضور الحلقات أو الدروس الأسبوعية للأخوات.

الجميع لبى نداء الوزير عمر سليمان لأن الثورة كانت بحاجة إلى إثبات نفسها، والبعض الآخر لبى طلب السيسي لأنه كان بحاجة لإثبات دوره في الثورة أمام المجلس العسكري، والإخوان استجابوا للقاء عمر سليمان اعتقادا منهم أنه حوار سياسي وليس استدعاء أمنيا كما جرت العادة طوال العقود الماضية، وأنهم استدعوا السيسي لوزارة الدفاع باعتباره رجلا متدينا أو قريبا منهم بعدما سمعوا منه ما يرضيهم وما يغريهم، وكل بني آدم خطّاء.