آراء ثقافية

القناة الوثائقية.. من أجل تلقين "سيساوي" أفضل للتاريخ

في افتتاحها أكدت قناة الوثائقية أنها هنا لتقدم سردية نظام السيسي- الأناضول
في الثامنة من مساء التاسع عشر من فبراير 2023، أطلقت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية UMS المملوكة عُرفيًا لجهاز المخابرات العامة المصرية القناة الخامسة عشر "الوثائقية" في سلسلة قنواتها التليفزيونية التي تستحوذ على الإعلام المصري طولًا وعرضًا، تلك القناة التي طال انتظار مثيلها كثيرًا من الجمهور المصري الذي كان يرى أن تاريخًا طويلًا لمصر مهملًا أحق بتدويره في مجموعة من الأفلام والمسلسلات الروائية كانت أو وثائقية، حتى جاءت أخيرًا، ولكنها جاءت ضمن الجوق الدعائي للنظام المصري الحالي.

بزوغ السردية المستقلة

وفي أعقاب ثورة يناير 2011، أهمل الإعلام المصري خاصًا وعامًا فكرة الإنتاج الوثائقي، واستغل الإعلام المصري مناخ الحرية ذلك في إطلاق العديد من قنوات السياسة والمنوعات والرياضة، وانغمس تمامًا، ما أفسح المجال لقنوات مثل الجزيرة الوثائقية وبي بي سي والعربي تي في وDW الألمانية العربية في تقديم إنتاجها التسجيلي عن التاريخ المصري وثورة يناير، فقدمت البي بي سي السلسلة المشهورة " فراعنة مصر المعاصرون" والتي تحاول أن تقدم لثورة يناير كامتداد لجمهورية يوليو منذ عبد الناصر حتى حسني مبارك، وقدمت الجزيرة الوثائقية العديد من الأفلام الوثائقية عن ثورة يناير مثل "الطريق إلى يناير\مبارك وعائلته\ مبارك وسنينه" وفي الواقع لم تكن هناك أي مشكلة بين النظام المصري وبين تلك السرديات، ففي ذلك الوقت كانت الدكتاتورية في إجازة مؤقتة حتى العام 2013.

حجب السرديات "المحرضة"

في أعقاب الانقلاب في مصر وصعود الجيش مرة أخرى للسلطة بقيادة عبد الفتاح السيسي، وفي إطار سعيه للسيطرة على زمام الأمور في البلاد من خلال الإعلام، هاجمت الشرطة مقر الجزيرة في مصر، وأغلقت مكتبها في القاهرة.

وفي الواقع، لم يكن هذا عائقًا كبيرًا للجزيرة في قناتيها الإخبارية أو الوثائقية في تغطيتهما للأوضاع في مصر، حيث استطاعت أن تعمل من خلال أذرع عديدة وتتستر بينما تنتج أعمالها في الشارع المصري. وبينما كان السيسي كان منتشيًا بزعامته التي تكبر يومًا بعد يوم، أنتجت الجزيرة الوثائقية سيلًا من الأعمال الوثائقية التي هزت الرأي العام في مصر عن ثورة يناير مثل فيلم "المندس" الشهير عن بلطجية البوليس في ثورة يناير وأحداثها المتعاقبة وعن نظام السيسي وانقلاب يونيو ومجزرة رابعة من ضمنها: "بعد الخامسة والنصف\ تحت المنصة\ عمارة المنايفة\ كانوا جرحى\صناعة الكذب".

وعلى جانب آخر كانت قنوات المعارضة تعرض أفلامها التسجيلية عن المذبحة مثل فيلم قناة مكملين: "اليوم الأخير" عن مجزرة فض رابعة، ودخلت قناة "العربي" في السباق والتي قدمت بدورها أفلامًا وثائقية عن انقلاب يونية ومجزرة فض رابعة "شريط رابعة" ونظرًا لما كانت تحدثه تلك الأفلام الخاصة بتلك القنوات، وتوجهاتها المستمرة في صناعة أفلام تدين النظام المصري ودمويته.

كانت تلك القنوات تقدم أفلامًا حتى عن مواضيع أخرى مسكوت عنها في الشارع المصري فقدمت البي بي سي فيلمين عن التطرف الديني في محافظة المنيا، وفيلمًا عن الألتراس، وقدمت الجزيرة فيلمين عن الألتراس أشارت فيهما بأصابع الاتهام إلى المجلس العسكري في مذبحة بورسعيد 2012م وإلى نظام السيسي الذي يضايق ويخنق تلك الروابط الجماهيرية، وحتى أن رابطة ألتراس وايت نايتس "نادي الزمالك" قدمت فيلمًا وثائقيًا عام 2015م عن أحداث مذبحة الدفاع الجوي اتهمت فيه الدولة بالتواطؤ مع مرتضى منصور رئيس النادي في تدبير المذبحة الإنتقامية من ألتراس نادي الزمالك، وحُذف الفيلم في ظروف غامضة.

كانت الحكومة المصرية أسهل ما تلجأ إليه هو الحجب الإلكتروني لمواقع تلك القنوات، وغلق مكاتبها في القاهرة، مع بعض المشاريع الفاشلة لحجب تلك القنوات من القمر الصناعي "نايل سات" لذلك كان هناك فشل في مواجهة الدعاية المضادة باستمرار، حتى جاءت الأفلام التي دقت ناقوس الخطر.

ردود بلا صدى

تطوعت دول الخليج أن تكون منبر نظام السيسي في تقديم سرديته ورؤيته لأحداث 30 يونيو ولحركات الإسلام السياسي وما يُطلق عليه الإرهاب، وكان ذلك من خلال قناة "العربية" السعودية ذات قطاع الإنتاج الوثائقي الضخم في الموارد، والضعيف في الشهرة الذي لا يكاد يقارن بشعبية الجزيرة لدى المصريين، لذلك كانت أفلام قناة العربية لا تجد لها صدى أو جدلًا مثل ذلك الذي كانت تصنعها الجزيرة، وقدمت العربية لصالح نظام يونيو سلسلة من خمسة أجزاء تحت عنوان: "سلفيو مصر" وهي تحرض بالأساس إلى عرض انشقاق التيار السلفي عن الإخواني وتدين ما فيه الإخوان من أفكار جهادية متطرفة.

وفي إطار سعيها لتنجيم السيسي خاصة لدى متابعيها من الخليج قدمت فيلمًا بعنوان: "المشير" عن السيرة الذاتية له، وفيلم سيرة موازي آخر لتشويه منافسه في انتخابات الرئاسة 2014 حمدين صباحي تحت عنوان: "حمدين يمين.. حمدين شمال" وفيلمًا عن علاقة الإخوان بإيران، إلى انتهت بتقديم فيلم في الذكرى التاسعة لانقلاب يونيو 2013 بعنوان: "الصدام الأخير.. تفاصيل المحطات الأخيرة قبل سقوط الإخوان".

ولكن، جاءت ثلاثة أفلام استوجبت ردود مباشرة من المؤسسة المصرية، لأنها تعرضت للخط الأحمر في مصر "الجيش" ففي خضم خطابات الحرب على الإرهاب المستمرة، وتعبئة الشعور الوطني تجاه معركة الجيش اليومية في تلك الحرب في سيناء وفي داخل مصر، في العام 2017 أنتجت قناة الجزيرة فيلمًا تحت عنوان: "العساكر.. حكايات عن التجنيد الإجباري بمصر" وأنتجت قناة بي بي سي فيلمًا تحت عنوان: "موت في الخدمة" وهما الفيلمان اللذان عريا منظومة الجيش والشرطة من الداخل وكلًا في تناول خاص، فبينما تناول فيلم الجزيرة التحقيق في قضية المعاملة غير الآدمية للعساكر، تولى فيلم البي بي سي التحقيق في قضية العساكر التي تموت من التعذيب أثناء الخدمة، وتلك قضايا لم يكن لنظام السيسي رفاهية السكوت عنها خاصة لما أحدثته من صدى واسع، ظهر تجليه في أن النظام تولى صناعة أفلامه عن المؤسسة العسكرية بشكل مباشر وقام بالرد مرة في فيلم: "يوم في حياة مقاتل" الذي يقدم صورة مضادة لفيلم الجزيرة ومغالية في مثاليتها، وفيلم "حراس الوطن" الذي استعان فيه بالممثل محمد رمضان ليقدم يوميات حياة جنود الصاعقة وما يواجهونه.

ومن تلك اللحظة ظل نظام السيسي مهمومًا بذلك الإنتاج وأهميته في صناعة سرديته الخاصة، فقدمت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية العديد من الأفلام أذاعتها على قنوات مختلفة مثل سي بي سي ودي إم سي في نهايات عام 2019م لعل أشهرها فيلم "حريق القاهرة" الذي كان على شكل استقصاء يستهدف في النهاية إثبات أن المسئول عن حريق القاهرة 1952م هم جماعة الإخوان المسلمين، وفيلمًا عن حياة "سيد قطب" والتي أظهرته كشخصية مريضة شديدة التعقيد. بالتوازي مع السعي لتقديم سردية نظام يونيو من خلال الأفلام والمسلسلات الروائية الشهيرة مثل "الاختيار\كلبش".

الجمهورية الجديدة

في افتتاحها، أكدت قناة الوثائقية أنها هنا لتقدم سردية نظام السيسي، فافتتحت القناة في شكل هزلي غير معهود لافتتاح قناة بعزف النشيد الوطني وعرض علم مصر يرفرف فقط، وفي بيان أحمد الدريني رئيس القناة وسياستها عبر صفحته على موقع فيس بوك ظهرت بعض الجمل والكلمات التي كانت واضحة في إعلان توجهها، فيقول الدريني: "بينما نحاول إعادة ترميم المروية العسكرية المصرية التي تتعرض لتشويهات واختطافات كثيرة، وبينما نمضي في مشروع إعادة اكتشاف وتقديم "الإسلام السياسي" على ماهيته الحقيقية دون مساحيق تجميل تذكر.. تأكد لنا.. أن السلعة الجيدة تلفت نظر الجميع".