آراء ثقافية

نمر بن عدوان: شاعر أحب زوجته ثم رثاها أربعين سنة!

ألف المؤرخ الأردني روكس العزيزي كتابا عن ابن عدوان
لعل مدونة نمر بن عدوان الشعرية تعد أهم مدونة شعرية عرفها الأدب الشعبي الأردني. وذلك لبلاغتها ومتانتها القائمة على قوة الباعث لها وأصالته.

ومنذ رحيله بحدود عام 1823م في منطقة الشفا (وتعني المنطقة المطلة وتسمى اليوم شفا بدران وهي من ضواحي عمان حاليا) ظلت أصداء سيرته تتردد في أسماع السمار في بادية الشام والجزيرة العربية. وتُنشد مراثيه على وقع حز الرباب فتختلط الأساطير بالحقيقة كعادة الشعوب في تبجيل فرسانها.

أجمع الرواة أن نمر بن قبلان العدوان قد تحصل له من التعليم في صباه ما لم يتحصل لأي من سكان بادية الأردن آنذاك. والتي كانت تحت ظل الدولة العثمانية. ففي عام 1763 تقريبا رجع نمر من دراسته في الأزهر الشريف ولا يذكر الرواة أيا من تفاصيل حياته في مصر حيث عاش ما يقارب السنتين بحسب ما رواه الأستاذ روكس العزيزي في كتابه المتميز عن الشاعر (1). رجع بعد أن تاقت نفسه لهواء الصحراء بعيدا عن صخب المدينة وناسها.

وفي نفس العام رأى وضحا بنت فلاح السبيلة وأحبها ثم دارت حياته الشعرية في فلكها. ومنذ ذك الحين كرس موهبته العظيمة في فك أسرار سحرها الذي ملأ به الصحراء وكانت حفنة الماء التي شربها من قربة (2) وضحا بنت فلاح السبيلة حينها عندما رآها للمرة الأولى، بمثابة (إكسير حياته) الذي ارتوى منه عشرين عاما. ثم حمل عطشه لأربعين عاما لاحقة، ما عرف بها غير التوجد واللوعة على فراق وضحا.

توفيت وضحا بحدود سنة 1783م بداء الكوليرا وكان نمر في سفر إلى القدس ونابلس لقضاء بعض الأعمال.

إن المتتبع للسياق التاريخي لهذا النوع من المراثي يجد عجبا. حيث لم تكن للمرأة في ذلك الزمن أي قيمة تذكر، فقد كان أحدهم إذا أشار لزوجته قال مثلا: الحرمة لا حرمك الله الجنة أو قال: عيلتي أجلك الله.. وغير ذلك من الألفاظ المهينة. و لكم أن تتخيلوا حجم التمرد الذي عمله نمر عندما عشق زوجته في حياتها ثم رثاها في مماتها ووصفها بـ(يا طيب ريح المسك ريحة جسدها) أو قوله:

لاطلع على المرقاب وأشرف على الدان

وادور بالدنيا واوصف مصابي

عاللي لاعتدل عدلة الزان

سود الجدايل وشوشن للتراب

وغير ذلك الكثير منثورا في قصائده التي حفظها الناس وتداولوها إلى يومنا هذا.

استطاعت قصائد ابن عدوان أن تتمدد في عروق الصحراء الأردنية واهبة لها الحياة لصدقها وعذوبتها. وكانت أثرا لشاعر عظيم جدد في عمود الشعر النبطي على ما كسبه من علوم في الأزهر والقدس من ناحية كثورته على عمود الشعر الشعبي في ما يسمى مشد القصيد وهي تعادل المقدمة الطللية في القصيدة الفصحى، وصارت معظم قصائده تبدأ بعبارة (سر يا قلم..) تجليا لتعلمه وربما يكون ذلك مقابلة منه لقيمة القلم في الموروث الإسلامي وأنه أول الخلق فأراد افتتاح معظم قصائده الكبرى به.

وعلى مستوى البنية الموسيقية فقد عمل معظم شعره في المراثي على وزن يسمى المسحوب (الشروقي) ووزنه:

مستفعلن مستفعلن فاعلاتن مستفعلن مستفعلن فاعلان

وقد أصبح لفرط شهرته بهذا الوزن يسمى بين قبائل البادية بـ (جرة نمر بن عدوان) والجرة هنا بتشديد الراء تعني النغمة.

وأما من ناحية الأثر الاجتماعي فقد ساهم هذا الشاعر العظيم بتغيير النظر للمرأة في تلك الحقبة (القرن الثامن عشر الميلادي)، ولا أدل على ذلك من المكاتيب الشعرية بينه وبين شيوخ قبائل الجزيرة العربية ومنهم الشيخ جديع بن هذال. وهم يبعثون له شعرا يواسونه بموت وضحا ويعددون مناقبها. وبذلك أصبح مديح مناقب المرأة في الشعر من الأغراض الشعرية المعتبرة بفضل الحب الصادق الذي تمثل بالأمير الفارس وبفضل ما وهبه الله من موهبة وجرأة بالخروج على بعض التقاليد التي ليس لها أساس من دين أو خلق.

إن حضور هذا الصراع ما بين تقاليد المجموع وما بين نظرته الحداثية والتي تستند إلى ما تعلمه من أساسيات الدين الحنيف في الأزهر، وما غذته المروءة العربية. هذا الصراع الذي خاضه الشاعر ببسالة يكاد يكون حاضرا في جميع قصائد الرثاء (رثائه لوضحا) على شكل ما يشبه التوقيع فكان يختم نهايات قصائد الرثاء بأن يدعو على كل من لامه على المراثي وعلى حبه الأبدي أن يبتليه بالمصائب.

وتعددت أشكال هذا التوقيع بحسب صياغات القصائد وقوافيها وما يتبع ذلك من مواضيع:

كمثل قوله: يا لايمن، الله يقطع ارجالك

الله يجعل حالك مثل حالي

(يعني أيها الذي تلومني أسأل الله أن لا يبقي لك من الأعوان أحدا، وأسأل الله أن يجعل حالتك البائسة مثل حالي).

وقوله: من لامني يبلاه برهط من الجان

يقضي زمانه بشمات وعذابي

(يعني أدعو على من لامني بأن يؤذيه مجموعه من الجن وأن يقضي بقية عمره عرضة للعذاب وللشامتين).

وقوله: من لامني لا ثور ولا حمار

الثور اشوى إن قال له دور يندار

(يعني أن كل من لامني إما ثور وإما حمار. بل إن الثور أفضل منه حالا حيث إنه مفيد في اتباع التعليمات).

لاحظت ذلك في معظم مراثيه التي رويت عنه وكأنما هي إلحاح وتأكيد لتلك القضية التي عبر عنها.. فهو برثائه لوضحا يواجه نظرة متخلفة من المجتمع القبلي للمرأة بشكل عام.

وهذا التوقيع الشعري موجود في تراثنا الشعري، ومن ذلك توقيع ابن الرومي في مطولاته وخاصة في مدائحه بما معناه: أن إليك هذه القصيدة الفريدة التي لا مثيل لها ولم يسبق أن عملها شاعر في ممدوح. مؤكدا بذلك على موهبته الفذة التي كان يشعر بأنها تستحق مكانة أفضل مما هي عليه.

بعد وفاة وضحا عاش نمر بن عدوان ما يقارب الأربعين سنة وتزوج بثلاث نساء ولم يجمع بأكثر من امرأة في وقت واحد، لكن خيال وضحا ظل خبزه وماءه طول تلك السنوات التي سطر بها ملحمة ما عرفتها الصحراء من قبل: شاعر أحب زوجته ثم رثاها أربعين سنة إلى أن قضى.

وفي آخر أنفاسه، كان يتخيل وضحا وقد أرسلت له سلاما من الفردوس وأخذت زوجته (الجازية) تهدئ من روعه وهي تعلم أن ذلك ما هو إلا هذيانات الموت.

وبعدما صحا من غيبوبته قال:

يا نمر وضحا أرسلتلك سلامين

واحد صباح الخير وذاك العوافي

يا من لي ذكر طارشه هو غدا وين

يا سامعين الصوت هو وين لافي

لو اذكروه بديرة الهند والصين

لاصله على رجلي لو كنت حافي

هوامش:

(1) تدين هذه الكتابة بالفضل والكثير من المعرفة لكتاب نمر بن عدوان شاعر الحب والوفاء للأستاذ روكس بن زائد العزيزي

(2) القربة: هي كيس من الجلد كانت بنات البدو يعبئنه بالماء من غدران المياه العذبة القريبة من ديارهن. وكان أول لقاء بين نمر بن عدوان ووضحا بنت فلاح السبيلة في ذلك العام، عام رجوعه من الأزهر في رحلة صيد له وصادف مجموعة من الصبايا يملأن قربهن بالماء العذب فطلب من وضحا شربة ماء فشرب ووقعت في قلبه فطلب يدها وهي من غير قبيلته ثم تزوجها.