قضايا وآراء

سيولة جيوسياسية فائقة لعالم بدون أيديولوجيا

العالم يتجه نحو المزيد من العسكرة برا وبحر وجوا والنفقات العسكرية تتضخم على حساب غيرها من النشاطات الاقتصادية
خلال لقاء رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأمريكية مع نظيره الأسترالي أنتوني البانيز والرئيس الأمريكي جو بايدن، فإنه كشف موعد تسلم أستراليا لغواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية ضمن صفقة عرفت باتفاق أوكوس (تحالف الغواصات ) في العام 2030 .

الرئيس الأمريكي في محاولة لتهدئة أجواء التصعيد في الباسفيك والمحيط الهندي أعلن بان الغواصات لن تحمل صورايخ نووية في حين حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من التحالف الأنجلوسكسوني الذي يضم (أستراليا وبريطانيا وأمريكا) وتداعياته على الأمن العالمي خصوصا أنه يستهدف الصين من خلال الدفع ببنية حلف الناتو للتمدد في آسيا .

الصين التي عبرت عن استيائها من الاتفاق على لسان الناطق باسم خارجيتها استبقت الاتفاق بالإعلان عن زيادة جديدة على موازنة الدفاع تعادل 7% مقتربة  بذلك الـ 230 مليار دولار؛ إلا أن التحول الحقيقي جاء بانطلاق مناورات بحرية في الـ 22 من شباط (فبراير) الماضي جمعت الصين بكل من روسيا وجنوب إفريقيا العضوان في مجموعة البريكس التي تضم (الهند وروسيا والصين وجنوب إفريقيا والبرازيل).

المناورات البحرية المشتركة قبالة المياه الإقليمية لجنوب إفريقيا المحاذية لميناء دوربان، أكبر ميناء في جنوب إفريقيا، وخليج ريتشاردز الواقعين على المحيط الهندي تقرب بكين من نقطة التقاء المحيط الهندي بالأطلسي مقتربة من شركائها في غرب إفريقيا وأمريكا الجنوبية عبر المحيط الأطلسي ومهددة الشواطئ الشرقية للولايات المتحدة.

العالم يتجه نحو المزيد من العسكرة برا وبحر وجوا والنفقات العسكرية تتضخم على حساب غيرها من النشاطات الاقتصادية؛ فإدارة الرئيس بايدن طالبت الكونغرس الأمريكي بموازنة عسكرية هي الأكبر في تاريخها تقدر بـ 886 مليار دولار بزيادة قدرها 28 مليار دولار عن العام الذي سبقه في حين بلغت موازنة الدفاع الروسية 144 مليار دولار بزيادة تقدر بـ 30 مليار دولار .

عسكرة البحار والفضاء بشقيه الجوي والسبراني تؤكد بأن القوى الدولية تعد نفسها لمواجهة جيوسياسية واقتصادية طويلة ترفع من حرارة خطوط التماس بين القوى المتنافسة وسيولتها في الآن ذاته؛ فجهود الصين للخروج من عقدة البحار شبه المغلقة بالممرات الضيقة في جزيرة سوقطرة ومضيق ملقة وفي بحر اليابان وجزر الكوريل ومحيط جزر الفلبين وشبه الجزيرة الكورية وأستراليا بات مقترنا بالتعاون مع روسيا وجنوب إفريقيا و الانفتاح  جيوسياسيا واقتصاديا على  باكستان والخليج العربي (الرياض وطهران ومسقط) فضلا عن مشاريعها الطموحة في بنغلادش وسيرلانكا وفنزويلا وكوبا .

العالم يعاد رسم عقده الجيوستراتيجية وفقا لتوقعات القوى المتصارعة وتوجهاتها فاتحا الباب للقوى الإقليمية الصاعدة لتحسين تموضعها في الساحة الدولية بالمناورة والاستثمار في المتطلبات المتزايدة للقوى المتنافسة في الساحة الدولية
لا تبحث القوى الدولية عن الصدام؛ لكنها تعمل بشكل متبادل على إحباط جهود محاصرتها أو تمددها على حساب بعضها الآخر ؛ وهي إجراءات واستراتيجيات استباقية وردود فعل مرافقة باتت روتينية نجم عنها  شراكات اقتصادية وسياسية وأمنية ذات طبيعة ديناميكية متحركة تشكلها المصالح لا الأيدولوجيا؛ وهو ما أمكن رصده في جنوب إفريقيا والخليج العربي بل وفي جزر سليمان جنوب المحيط الهادي حيث وقعت الصين اتفاقات تسمح لأسطولها البحري بالحصول على الدعم اللوجتسي للعمل أعالي البحار  بعيدا عن المضائق والخلجان المغلقة.

فقدان الصراع والتنافس الدولي لبعده الأيديولوجي وفر مزيدا من المساحة للمناورة الجيوسياسية والجيواقتصادية  للقوى الإقليمية الصاعدة؛ وهو ما نجده في موقف تركيا من الصراع في أوكرانيا وتايوان؛ فرغم عضويتها في الناتو تعقد الصفقات مع روسيا لشراء الغاز ومع أمريكا لشراء أف 16 وتمارس الوساطة في اتفاقات الحبوب عبر البحر الأسود.

وفي موقف الهند التي باتت نموذجا يدرس في الجمع بين التناقضات كالعضوية في مجموعة البريكس  ومنظمة شنغهاي (الروسية الصينية)،  حيث تشتري النفط بالروبل الروسي والروبية الهندية مقابل عضويتها في مجموعة كواد (الأمريكية اليابانية) حيث تصدر بضائعها بالدولار في الآن ذاته.

وفي النموذج السعودي الذي يبيع النفط باليوان للصين ويعقد المصالحات برعايتها ويشتري الطائرات التجارية من شركة بيونغ الأمريكية بالدولار أيضا؛ إنه عالم بلا أيديولوجيا يتمتع بسيولة جيوسياسية واقتصادية فائقة.

ختاما..

العالم يعاد رسم عقده الجيوستراتيجية وفقا لتوقعات القوى المتصارعة وتوجهاتها فاتحا الباب للقوى الإقليمية الصاعدة لتحسين تموضعها في الساحة الدولية بالمناورة والاستثمار في المتطلبات المتزايدة  للقوى المتنافسة في الساحة الدولية؛ وهي توجهات تحوي تناقضات ومساومات يتوقع أن تزيد من مستوى  السيولة الجيوسياسية للشراكات والتحالفات الإقليمية لدرجة تفقدها معناها واستقراراها خصوصا وأن الصراع الدولي اقتصادي في جوهرة يفتقد للبعد الأيديولوجي الصارم بما يسمح بمحاكمة المنخرطين فيه.

hazem ayyad
@hma36