أفكَار

أثر الحصري وبعثيي سوريا ونكبة فلسطين في نشأة قوميي العراق

المشكلة في تفكير ساطع الحصري، أنه حاول حصر الحق في تمثيل القومية العربية في العراق بالعرب المسلمين فقط
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية، التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم يواصل الأستاذ الدكتور سعد ناجي جواد، عرض تاريخ التيار القومي في العراق، في ورقة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21" عن تاريخ القوميين في العراق وتوجهاتهم الرئيسية، ننشرها في حلقات.


أثر ساطع الحصري في العراق

يمكن القول؛ إن نسبة كبيرة من الفضل في تثبيت التوجه والفكر القومي العربي المعاصر في العراق، يعود إلى المفكر والتربوي العربي (السوري ابن حلب) ساطع الحصري (1879 ـ 1968).

بدأ الحصري عمله في سوريا في حكومة الملك فيصل الأول، وأنشأ وترأس أول وزارة للمعارف هناك، ثم قدم إلى العراق مع الملك فيصل، وعمل في أمور التربية والتعليم أيضا طوال العهد الملكي. وكانت كتاباته ومطارحاته قد انتشرت بين أصحاب الفكر القومي في المشرق العربي، وكانت مثار اهتمام الشباب القومي. ثم أصبحت مؤلفاته، ولا تزال مراجع مهمة في القضايا القومية العربية.

المشكلة في تجربة وتفكير المرحوم الحصري (فيما يخص عمله في العراق)، هو أنه حاول حصر الحق في تمثيل القومية العربية في العراق بالعرب المسلمين فقط، والأكثر سلبية أنه امتلك تفكيرا طائفيا منحازا ضد الشريحة الأكبر من العراقيين وهم الشيعة العرب، والأخطر من ذلك أنه انجر إلى تصنيف (أو اتهام) بعض رموز الشيعة الوطنيين والعروبيين والمناهضين للاستعمار البريطاني من العراقيين بكونهم إيرانيين، على الرغم من حقيقة أن من بينهم كان هناك مبدعون في اللغة العربية، وأدوا دورا كبيرا في الحركة الوطنية وفي ثورة العشرين وفي حملة المطالبة بالاستقلال التام بعد ذلك، (قارن ذلك بتجربة إبراهيم باشا في مصر).

لا يمكن أن يُنكر على الحصري نجاحه قي توضيح العديد من المفاهيم عن القومية العربية، وخاصة في مجال جعل الأمة العربية الواحدة حقيقة لا جدال فيها، وأنه نجح في خلق وعي قومي عربي ليس في العراق فحسب، بل في أقطار الوطن العربي كافة.
هذا التفكير أبعد عنه وعن أفكاره القومية شريحة مهمة من شرائح المجتمع العراقي. علما أن طريقة تفكيره الضيقة (الطائفية نوعا ما) في هذا المجال، انتشرت فيما بعد بين العديد من دعاة القومية العربية في العراق من السُنة، ضباطا ومدنيين، ولا يزال البعض يتمسك بها، (بل وازدادت بصورة واضحة بعد احتلال العراق 2003 واتباع القادمين الجدد سياسة طائفية مقيتة).

ولكن ذلك لا يمكن أن يُنكر على الحصري نجاحه قي توضيح العديد من المفاهيم عن القومية العربية، وخاصة في مجال جعل الأمة العربية الواحدة حقيقة لا جدال فيها، وأنه نجح في خلق وعي قومي عربي ليس في العراق فحسب، بل في أقطار الوطن العربي كافة. إلا أن الشهيد باسل الكبيسي، أحد أهم قيادات الحركة القومية العربية في العراق، أخذ على كتابات الحصري أنها لم تعالج النواحي الاقتصادية والاجتماعية في بناء الأمة، وكانت أفكاره ذات علاقة بمراحل الاحتجاج القومي أكثر من اهتمامها بمهام البناء القومي.

ورغم جهود الحصري وجيله من رواد القومية العربية، وكذلك الشباب الذين تتلمذوا على يد المدرسين العرب الذين تحدثنا عنهم، إلا أن فترة الثلاثينيات والأربعينيات شهدت نجاحا كبيرا للحزب الشيوعي العراقي في استقطاب الشباب من العرب والأقليات الأخرى، وخاصة الأكراد. كما شكلت معارضته للوجود وللنفوذ البريطاني راية التف حولها طلاب المدارس والكليات والمعاهد، والمتعلمون. طبعا هذا لا يعني أن الأحزاب الجماهيرية الأخرى (مثل جماعة الأهالي، التي تطورت لتصبح الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث من بعدهم)، قد عجزت عن استقطاب مجاميع من الشباب والمثقفين والعمال، إلا أن نجاحات الحزب الشيوعي كانت أكبر واوسع.

القوميون العراقيون ونكبة فلسطين

في عام 1941 ظهر الشعور القومي العربي والعراقي واضحا وجليا في أثناء حركة وحرب 1941، التي تصدى فيها الجيش العراقي الناشئ لمحاولة الجيش البريطاني لإعادة احتلال العراق بسبب رفض حكومة العراق آنذاك (حكومة رشيد عالي الكيلاني) دخول الحرب إلى جانب بريطانيا. في تلك الفترة جرى تشكيل تنظيمات معتمدة على الشعور القومي والوطني وانتشرت ببن الشباب، وأعيد تنظيم (الفتوة) وكتائب الشباب المسلحة.

كل ذلك جرى وتزامن مع الفترة العصيبة التي كانت فيها فلسطين تتعرض لمحاولات اغتصاب وتقسيم. وتوج ذلك في مشاركة الجيش العراقي في حرب 1948، ونجاحه في صد هجمات العصابات الصهيونية واستعادة أراضي فلسطينية منها، حتى أجبرت بريطانيا النظام الملكي آنذاك على وقف الحرب وسحب الجيش العراقي. علما أن حرب 1948 والنكبة التي تلتها أججت الشعور القومي العربي في العراق بصورة كبيرة، وخاصة بين ضباط الجيش الذين كانوا يحاربون على أرض فلسطين.

وعندما اُعلنت الهدنة رغما عن رغبة قادة الجيش، قام عدد من الضباط العراقيين الشباب، وفي حالات منفردة، بارتداء ملابس مدنية والمشاركة في العمليات الفدائية التي كانت تقوم بها فصائل المقاومة الفلسطينية. وأحد هؤلاء الضباط كان النقيب (العقيد) رفعت الحاج سري، الذي شكل نواة حركة الضباط الأحرار العراقيين، التي أسقطت النظام الملكي في العراق والتبعية البريطانية عام 1958.

وعلى الرغم من أن سري كان نموذجا للشاب الذي يحمل توجهات إسلامية ـ قومية، إلا أن تشكيلة الضباط الأحرار، شأنها شأن كل التوجهات الوطنية آنذاك، لم تقتصر على أصحاب الأفكار القومية الدينية، وإنما شملت كل الاتجاهات (قومية، إسلامية، ليبرالية ويسارية)، وكل القوميات (عربية وكردية وتركمانية)، وكل الأديان والمذاهب (مسلمين؛ سُنة وشيعة، ومسيحيين).

كما ذكر سابقا، فإن أحداث عامي 1947 و 1948 في فلسطين وما كان يجري فيها، أججت الروح القومية بين العراقيين بصورة كبيرة. وكان لظهور أحزاب سياسية ذات توجه قومي الأثر الكبير في إذكاء الروح القومية بين الشباب العراقي، وبالذات حزب الاستقلال وحزب البعث العربي الذي ظهر في سوريا أولا.

بعثيو سوريا

تأثرت مجموعة من الطلبة العراقيين الذين كانوا يدرسون في الجامعة الأمريكية في بيروت في الأربعينيات بالفكر البعثي والقومي العربي، وعادوا إلى العراق (في بداية الخمسينيات) لكي يشكلوا نواتين الأولى لحركة قومية عربية والثانية لحزب البعث. إلا أن جهودهم في البداية لم تفلح في تشكيل تيار قومي كبير قادر على مجاراة أو منافسة الحزب الشيوعي العراقي ونفوذه في الشارع. لكن الصورة بدأت تتغير بعد ارتكاب الحزب الخطأ التاريخي الكبير المتمثل في تأييد قرار تقسيم فلسطين عام 1947 والقبول به، تماشيا مع موقف الاتحاد السوفييتي، ذلك الموقف مَثَّلَ الخسارة الأكبر للحزب.

ثم ارتكب الحزب الخطأ الثاني المتمثل بالوقوف في وجه المد القومي العربي بعد ثورة 1958 المطالب بالوحدة مع  مصر وسوريا ـ الجمهورية العربية المتحدة،  كل هذه الخطايا جعلت التيار القومي ينجح في الانتشار بسرعة أكبر. ومن بداهة القول بأن الدعم الأهم لهذا التيار، جاء من نجاح الثورة المصرية في عام 1952، وظهور شخصية وقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ذات التوجه القومي العروبي التحرري الواضح.

في الوقت الذي اندفعت فيه أغلب أطراف الجبهة من القوميين والعروبيين في تأييد الوحدة ولقيادة عبد الناصر، التزم الشيوعيون العراقيون الصمت، لا بل إنهم لم يخفوا امتعاضهم من نجاحات الرئيس عبد الناصر، والسبب في ذلك هو إقدام الأخير على حل الحزب الشيوعي المصري، وبعد ذلك السوري، وتشكيله لتنظيم موحد (هيئة التحرير، الاتحاد القومي ثم الاتحاد الإشتراكي العربي).
تعتبر فترة الخمسينيات الفترة التي يمكن أن تؤرخ ظهور حركة قومية عربية في العراق. هذه الحركة في البداية كانت تتكون من شقين؛ الشق الأول يقوده الشباب المؤمنون بالفكر القومي، والثاني يقوده الشباب المؤمنون بأفكار حزب البعث العربي الاشتراكي.

لقد كان واضحا، وعلى الرغم من أية ملاحظات على تجربة حزب البعث، إلا أنه تفوق على تنظيمات أصحاب الفكر القومي لعدة أسباب، الأول؛ هو وجود تنظيم واضح لدى الحزب، في حين أن التيار القومي ظل مشتتا وبدون تنظيم واضح. والثاني؛ وجود قيادة واضحة لدى البعثيين، (وزاد من تشتت التيار القومي أن بعض قيادييه انضموا إلى حزب البعث). والثالث انتباه قادة حزب البعث إلى العلاقة بين القومية والإسلام، ونجاحه في كسب الشباب العربي المسلم في العراق خاصة، وكانت أول هذه النجاحات خطبة المؤسس المشارك لحزب البعث، الذي اعتبر فيما بعد مفكره، ميشيل عفلق، التي عنونها (في ذكرى الرسول العربي) في عام 1943، والتي طورها فيما بعد إلى بحث طويل.

وعلى الرغم من كل الاختلافات بين الأحزاب السياسية الوطنية (السرية) في العراق (الشيوعي والبعثي والوطني الديمقراطي والاستقلال، وشخصيات وطنية وقومية)، إلا أنها جميعا ساهمت بشكل فعال في الاحتجاجات الوطنية، التي عمت بغداد بعد العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956. ثم نجحت نفس الأحزاب في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني (1957)، التي كان هدفها دعم أي عملية لتغيير النظام الملكي. ولكن نقطة، أو بوادر الخلاف بينهم بدأت بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) شباط/فبراير 1958.

ففي الوقت الذي اندفعت فيه أغلب أطراف الجبهة من القوميين والعروبيين في تأييد الوحدة ولقيادة عبد الناصر، التزم الشيوعيون العراقيون الصمت، لا بل إنهم لم يخفوا امتعاضهم من نجاحات الرئيس عبد الناصر، والسبب في ذلك هو إقدام الأخير على حل الحزب الشيوعي المصري، وبعد ذلك السوري، وتشكيله لتنظيم موحد (هيئة التحرير، الاتحاد القومي ثم الاتحاد الإشتراكي العربي).

كما ظهر أن سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي آنذاك سلام عادل (حسين الرضوي)، قد أرسل إلى قادة شيوعيين مصريين رسالة (آذار / مارس 1958، أي بعد أقل شهر من إعلان الوحدة)، يخبرهم: (تأهبوا حتى ننهض معا ضد عبد الناصر، ما إن نطح بالنظام الملكي في العراق). طبعا الوحدة شَكَلَت أيضا بداية الخلاف بين حزب البعث وقيادة الرئيس عبد الناصر، بسبب أن قرار حل الأحزاب شمل البعث السوري، إلا أن ذلك الخلاف أو عدم الرضا عن القرار، ظل خافتا وشارك الحزب في حكومة الوحدة، (ثم انفجر بعد سنة كما سيتوضح لاحقا).

اقرأ أيضا: جذور الحركة القومية العربية في العراق.. معطيات ومبادئ