حَلّقت
الديمقراطية بجناحيها، وحطت برحالها أول ما حطت على أرض "
تونس" الخضراء قبل
غيرها من دول الجوار العربي القريب كليبيا ومصر، والبعيد مثل سوريا واليمن، في
مفاجأة مبهجة لكل شعوب المنطقة العربية المحرومة دهراً. واشتعلت جذوة
الثورة كردة
فعل غير مسبوقة لما قام به بائع الخضار المكلوم "محمد البوعزيزي"، حينما
أشعل النار في نفسه اعتراضا على الظلم والقهر الذي تعرض لهما من الفعل السادي لموظفة
البلدية، وتحرك الشعب التونسي نافضا عنه وعنا إرثاً طويلا من القهر والإذلال،
وتنفست شعوبنا عبير الحرية والكرامة بعد ظمأ الهجير من السلطوية والدكتاتورية
البغيضة، وذرفت عيوننا جميعا ونحن نشاهد ونسمع أحد المواطنين التونسيين صائحا في
وسط الشارع: بن علي هرب.. بن علي هرب!..
وتوالت
هبّات الشعوب العربية بعد هَبْةً الشعب التونسي، في ليبيا التي تعفنت أربعة عقود
كاملة جثم على أنفاسها وبدد ثرواتها أحد أشهر مدعي الجنون في سدة الحكم؛
"معمر القذافي"!..
ثم
انتقلت الثورة إلى مصر الكبيرة بتاريخها وثقلها رغم محاولات التقزيم الممنهجة
والمستمرة! ثم سوريا واليمن.. إلخ..
إذن فما
الذي حدث حتى نعود أدراجنا هكذا؟؟
وكيف
انتصرت الدولة العميقة في كل أقطار الربيع؟؟
وكيف
خسرنا كل المكتسبات التي حققناها وبأثر رجعي كما يقول خبراء القانون؟!
ثمّة
أسباب كثيرة وهامة لحالة الانتكاسة التي تعرضت لها الديمقراطية في المنطقة
العربية، ولا شك أن انتصار الدولة العميقة في كل قُطر على حدة جاء بتدبير مُحكم وخُططٍ
شيطانية، واستنفار لقوى داخلية وخارجية -إقليمية ودولية- أزعجتها ثورات الربيع، ربما
لفوات مصالحها المرتبطة ببقاء الأنظمة السلطوية. وهناك صنف آخر أحزنه أن تكتسب
الشعوب حريتها وكرامتها! وعداؤه ليس دفاعاً عن مصالحه وإلا لبحث عنها مع الوافد
الجديد صاحب السلطة المنتخب! لكنه كاره لحرية البشر، متصادمٌ مع إرادتها، خائفٌ من
عدوى الثورة على شعبه المستأنس!
والأسباب
كثيرة حقا لا يسع المقال لذكرها، فبعضها جهلُ غالبية الشعوب العربية لأهمية
الديمقراطية بالنسبة لها وأنها ليست ترفاً أو عبئاً يرتاحون ويصفقون للخلاص منه -كما
صوروه لهم-! ولقد ترافق ذلك مع الدور المريب الذي بذلته وسائل الإعلام -المدفوعة-
في تشويه صورة الثورة وتحميلها كل أسباب الضنك، أو ربما للدور غير البريء الذي قام
به بعض الدعاة المنتسبين للتيار السلفي والمدخلي في التلاعب بعقول الشعوب وصرفهم
عن مجرد التعاطي مع الديمقراطية بدعاوي مختلفة، ككفر الديمقراطية، وحرمة الخروج
على الحاكم! أو رعونة بعض التيارات الحزبية والشعبية -إسلامية وغير إسلامية- في
التفاعل مع الأزمات كما حدث في مصر وعدم التحرك حتى بعد خراب مالطة! ولعله دور بعض
رئاسيات الطوائف المسيحية في تحريض أتباعها على معاداة الثورات وعدم التفاعل معها،
كما فعل الأنبا شنودة في تحذيره للمسيحيين المصريين بعدم المشاركة للحفاظ على
شراكة الكنيسة مع النظام المصري إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، ودور
الكنيسة فيما بعد!
تعددت
أسباب الانتكاسة حتى عدنا أدراجنا كما كنا على حالتنا الأولى بل أشد سوءاً، ولكل
واحدة من تلك الأسباب حاجة إلى سردها، ولعلنا في مقال قادم نتحدث عن مسئولية النخب
مقابل الشعوب فيما آلت إليه أحوال الربيع إلى خريفٍ بل شتاءٍ بارد!