في 30 أيار/ مايو الماضي، أجرى الرئيس
المصري عبدالفتاح السيسي اتصالاً هاتفياً هنّأ فيه الرئيس رجب طيب أردوغان بفوزه
بولاية رئاسية جديدة في
تركيا. وفقاً لبيان دائرة الإتصال في رئاسة الجمهورية
التركية، فقد إتفق الجانبان خلال الإتصال على رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي وتبادل
السفراء. فضلاً عن ذلك، فقد ناقش الطرفان
العلاقات الثنائية وبعض الملفات
الإقليمية المهمّة.
خلال العام الماضي، شهدت العلاقات المصرية ـ
التركية تحسّناً بطيئاً لكن ثابتاً على أكثر من صعيد تمخّض عنه عقد اجتماعات بين
وفود من خارجيّتي البلدين، تبعه مصافحة بين السيسي وأردوغان على هامش كأس العالم
لكرة القدم 2022 الذي أقيم في قطر. وسرّعت دبلوماسية الكوارث التي تكثّف فيما بعد
في اعقاب الزلزال المدمّر الذي ضرب أجزاء واسعة من تركيا في شهر فبراير الماضي من
عجلة التقارب والتطبيع، فالتقى وزيرا خارجيتي البلدين في إسطنبول والقاهرة للترتيب
لتبادل السفراء وللقاء لاحق بين رئيسي البلدين.
وتؤكد المؤشرات المتوافرة حتى هذه اللحظة
أنّ مسار التقارب والتطبيع مستمر بين البلدين بعد أن كان الجانب المصري يتعمّد
إبطاء العملية مؤخراً في انتظار معرفة نتائج الاستحقاق الانتخابي الكبير في تركيا
على المستوى البرلماني والرئاسي. أمّا وقد تمّ حسم موضوع الانتخابات، فقد بدا
واضحاً أنّ الجانب المصري أصبح مهتماً بملاقاة النيّة التركية في تسريع العملية،
وأنّ الأمور تسير في الإتّجاه الصحيح.
هناك عوامل أخرى بطبيعة الحال ساهمت في
تسريع التقارب والتطبيع من بينها على سبيل المثال إزدياد الضغط المالي والإقتصادي
على الجانب المصري، وإحجام حلفاء الأمس (السعودية والامارات) عن الاستمرار في
تقديم الدعم المالي بالشكل الذي كان يتم عليه الأمر سابقاً، ما يعني أنّه يتحتّم
على الجانب المصري إيجاد حلول جديدة. القاهرة تبحث عن أماكن جديدة لزيادة الصادرات
والحصول على المزيد من العملة الصعبة.
وفي هذا السياق، تشكّل تركيا هدفاً مناسباً
للقاهرة. حجم الصادرات المصرية إلى تركيا ارتفع العام الماضي فقط بنسبة حوالي
32.3% مقارنة بالعام الذي سبقه ليبلغ قرابة 4 مليار دولار مقابل حوالي 3 مليار
دولار في العام 2021. هذا يعني أنّ القاهرة استطاعت في عام واحد زيادة مليار دولار
إضافي كصادرات الأمر الذي رجّح كفّة حجم التبادل التجاري مع تركيا لصالحها.
تعدّ أنقرة كذلك من أبرز مستوردي الغاز من
مصر. وتستورد تركيا معظم حاجاتها من الطاقة من الخارج وتشكل فاتورة وارداتها في
هذا المجال والتي تتجاوز 40 مليار دولار عامل ضغط على الحكومة ولكن يمكن استخدامها
في نفس الوقت كجزرة لجذب المنتجين، كما هو الحال بالنسبة الى علاقة تركيا مع مصر.
يوفر استيراد تركيا المقصود للغاز من السوق المصري المزيد من العملة الصعبة
للقاهرة في أحوج الأوقات. فضلاً عن ذلك، ووفقاً لأرقام العام الماضي، فقد إرتفع
حجم الاستثمار التركي في مصر بنسبة حوالي 30% مقارنة بالعام 2021، وهو أمر إيجابي
بالنسبة إلى القاهرة.
تشكّل تركيا هدفاً مناسباً للقاهرة. حجم الصادرات المصرية إلى تركيا ارتفع العام الماضي فقط بنسبة حوالي 32.3% مقارنة بالعام الذي سبقه ليبلغ قرابة 4 مليار دولار مقابل حوالي 3 مليار دولار في العام 2021.
ملف الطاقة واحد من الملفات المهمة بالنسبة
الى الجانب التركي، ولذلك من المتوقع ان يكون على رأس أولويات الحكومة التركية في
علاقاتها مع مصر خلال المرحلة المقبلة، لاسيما ترسيم الحدود البحرية شرق البحر
المتوسط، ومنظمة شرق البحر المتوسط للغاز. صحيح أنّ التفاوض في هذه الملفات ليس
سهلاً ويتطلب عادة وقتاً طويلاً، لكن إذا استطاع الطرفان تحقيق اختراف فيه، فقد
يغير ذلك من وجه المنطقة ويتيح فرص استثنائية لتركيا ومصر على حد سواء. من بين
الملفات التي قد يكون لها انعكاسات استراتيجية، جذب اليونان في مرحلة ما الى مثلث
المصالح التركية- المصرية-الليبية، أو دخول تركيا في منظمة غاز شرق البحر المتوسط.
من المواضيع التي تأتي على رأس سلّم أولويات
الحكومة التركية في علاقتها مع مصر أيضاً ملف ليبيا. التوصل إلى اتفق ثنائي في
ليبيا من شأنه أن يتيح للأتراك والمصريين كما للشعب الليبي على حدّ سواء مكاسب
عظيمة على أكثر من صعيد ويتضمن ذلك قطاعات الطاقة والصناعة والتجارة والبناء
والمقاولات واليد العاملة والموارد البشرية الخبيرة ...الخ.
حتى الأمس القريب، كانت مصر لا تزال تمنّي
النفس بتعويض هزيمة حفتر التي نجمت عن التدخل التركي لصالح حكومة الوفاق الوطني
المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة آنذاك، لكن محاولاتها فشلت. التركيز على
المصالح المشتركة بدلاً من التعطيل من شأنه أن يغيّر الوضع ليس في ليبيا فقط وإنما
في جميع الملفات التي ينخرط بها الطرفان، وهي ليست بقليلة.
باختصار، الاقتصاد والطاقة والتجارة
والأعمال والجيو ـ استراتيجيا تحتل الأولوية. البعض يركّز دوما على ما يعتبره
إشكاليات سياسية في العلاقات الثنائية. التركيز على هذا الجانب يتم لأسباب
أيديولوجية، أو لأنّهم يريدون من الطرفين أن ينشغلا في هذا العامل، أو ربما انعكاساً لتأثير الضخ الإعلامي وقلّة الإطلاع على المصالح المشتركة للطرفين من
المنظور الاستراتيجي. لكن في جميع الأحوال، يبدو التركيز على ما يجمع أكثر مما
يفرّق هو الدفاع لهذا التقارب والتطبيع الجاري، وطالما أنّ هذه الحاجة موجودة،
فإنّ التقارب سيسير في الإتجاه الصحيح.