قضايا وآراء

انقلابات عسكرية ببصمة أمريكية!

ثورة أم انقلاب؟
وجاء اليوم الثالث والعشرون من تموز/ يوليو وما أدراك ما هذا اليوم، إنه يوم الزينة الذي تقام فيه الأفراح وتُرفع فيه الأعلام احتفالاً بمولد مصر الجديدة على يد حفنة من ضباط الجيش.. ولقد بلغت الذكرى من العمر عتياً، سبعين سنة وازدادت واحداً، غيرت فيها شكل العالم العربي كله وليس شكل النظام في مصر فحسب، إذ كانت بداية الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية، والحكم العسكري في معظم أقطارها، إذا ما استثنينا انقلاب حسنى الزعيم في سوريا عام 1949 والذي أُسقط بعد أقل من أربعة أشهر بانقلاب آخر مماثل قام به سامي الحناوي وتم إعدامه، تبعه انقلاب ثالث في نفس العام.

لم يحمل البيان الأول للجيش المصري بين ثناياه كلمة "ثورة"، بل أطلق وصف "حركة الجيش المباركة" وبتوقيع الضباط الأحرار، ولأنهم شباب صغار السن فقد خشوا أن يرفضهم الشعب فجاءوا باللواء "محمد نجيب"، رئيس نادي الضباط في ذلك الوقت وكان ذا سمعة طيبة ويتمتع بقبول ومحبة من أفراد الجيش مكّنته من إسقاط منافسه الذي يدعمه الملك، ليكون قائدهم، ثم اعتقلوه بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية عام 1954. وهذه قصة أخرى ليس مجال سردها الآن، لنعود إلى بيان حركة الجيش الذي حمل عبارات برّاقة وكلمات رنانة تتوق إلى سماعها الأذن وتطير معها الأفئدة لتحلق في سماء الأحلام؛ فلطالما راودتها هذه الأحلام منذ عقود خلت، كالقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وبناء جيش وطني قوي..

عبارات برّاقة وكلمات رنانة تتوق إلى سماعها الأذن وتطير معها الأفئدة لتحلق في سماء الأحلام؛ فلطالما راودتها هذه الأحلام منذ عقود خلت، كالقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وبناء جيش وطني قوي.

وبعد أربعين يوماً فقط من الاستيلاء على الحكم، أصدر الضباط قانون "الإصلاح الزراعي"، وقد كان هذا القانون مقدماً سلفاً من النائب "إبراهيم شكري" للبرلمان في عهد الملك فاروق، للحد من المُلكية الزراعية للأفراد لتجعلها الحركة لا تزيد عن 200 فدان بعد أن كانت الآلاف من الأفدنة؛ التي وُزعت على الفلاحين فأصبح المستأجر مالكاً للأرض وخرج الفلاحون فرحين مهللين بالحركة المجيدة، استغلها عبد الناصر ورفاقه للترويج لأنفسهم، خاصة أن هناك قطاعا لا يُستهان به من الشعب كان لايزال يتوجس خيفة منهم، فاستقلوا قطاراً يطوف بين المحافظات عُرف فيما بعد بـ"قطار الثورة" ليظهروا من شرفاته لتحية الجماهير المحتشدة التي خرجت لاستقباله، وأعقبه قطار الفنانين من الممثلين والمطربين الذين يحبهم الشعب للترويج لهؤلاء الضباط الأحرار..

قد يرى البعض أن في قانون "الإصلاح الزراعي" عدالة في توزيع الثروة، رغم اعتراض شيخ الأزهر آنذاك عليه لأنه يخالف نصوص وتعاليم الإسلام، ولكن من المؤكد أن هذا القانون قد أضر بالزراعة في مصر أشد الضرر، إذ أنه قضى على وحدة الأراضي الزراعية وقسمها وفتتها إلى أجزاء صغيرة، وبُوّرت الكثير من الأراضي الزراعية وجُرفت وبنيت فوقها المنازل ومصانع الطوب.

ومن المفارقات الهزلية أن عبد الناصر ذهب بعد ذلك إلى الصحراء لاستصلاح أرضها وتعميرها والزراعة فيها، كإنشاء "الوادي الجديدة" الذي أعلن عنه عبد الناصر في عام 1958 ليكون موازياً لوادي النيل، وتقوم فيه التنمية على مياه الآبار الجوفية!

وفي العقود الثلاثة الماضية عاد الإقطاع في صورة جديدة وبحلّة مزركشة لامعة، وأصبح بعض أفراد الحظوة يملكون آلاف الأفدنة من الأراضي!

أما البند الخاص بالقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، فقد صدر في أوائل الستينيات قرارات التأميم للشركات والمصانع والمحلات، وأصبح كل شيء تابع للدولة، وتم إنشاء المؤسسات التي تدير كل هذا الصرح الضخم، ووُضع على رؤوسها ضباط لا يملكون الخبرة لإدارتها، إذ إن القاعدة عندهم الاعتماد على أهل الثقة وليس من ذوي الكفاءة، فضعف الإنتاج وساءت جودته وخسرت معظم هذه المؤسسات التي انتشر فيها الفساد وعشش بين جدرانها فآلت للسقوط، وبدلاً من سيطرة ثلة قليلة من الرأسماليين على الحكم، سيطر الجيش على الاقتصاد وأصبح بمؤسساته العسكرية والاقتصادية والإعلامية؛ مسيطراً على الحكم بأكمله وأصبح دولة داخل الدولة!

أما باقي البنود التي وردت في البيان فحدّث ولا حرج، فلم تقم الحياة الديمقراطية السليمة التي وعدوا بها الشعب، بل حلّوا جميع الأحزاب وجففوا كل منابع السياسة وكمّموا الأفواه وأمّموا الصحف والمجلات، وأصبح حكم الفرد فقط هو الحكم الغالب بحزبه ممثلاً في البداية بـ"هيئة التحرير" ليحل مكانه "الاتحاد القومي"، وليستبدله بعد ذلك بـ"الاتحاد الاشتراكي" حيث كان النظام في أوج صور الديكتاتورية المعروفة وحكم الشعب بالحديد والنار..

أما عن بناء جيش وطني قوى، فقد تسبب في انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر عام 1961 لانحراف وفساد قادته، وانهزم عام 1956 وسقط في مستنقع حرب اليمن التي أضاعت ذهب مصر ومخزونها الاستراتيجي وكبّلت خزائن الدولة بما لا طائل لها به، وكانت إحدى الأسباب الكبرى لهزيمته عام 1967؛ الكارثة الكبرى التي حلت على الأمة ومكّنت الكيان الصهيوني من احتلال القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان.

ولم يعد الكيان الصهيوني هو العدو التاريخي للأمة، بل تحولت البوصلة وأصبحت حركات المقاومة له هي العدو فاحذرهم، وأصبح قادة الكيان الصهيوني يعتبرون حسني مبارك رئيس مصر الأسبق كنزا استراتيجيا لهم!

لقد بنى عبد الناصر شعبيته الطاغية في العالم العربي على عدائه الشديد لإسرائيل وأنه سيقذف بها في البحر، فإذا بالبحر يبتلع كل شعاراته وكلماته!

يقول رجل المخابرات الأمريكي "مايلز كوبلاد" في كتابه الشهير "لعبة الأمم": المخابرات الأمريكية قدمت المساعدات السرية لعبد الناصر، جعلنا منه عملاقاً. المخابرات الأمريكية التقت ثلاث مرات في آذار/ مارس 52 بعبد الناصر وجماعته واتفقت معه على إشاعة الشعور بين المصريين بأن انقلابهم ليس مفروضا من الإنجليز أو الأمريكان أو الفرنسيين، وسمحت له بأن يهاجم هذه الدول في خطبه بعد الانقلاب ليبقى التعاون سراً بين المخابرات الأمريكية وبين الانقلاب".

* * *

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة، كان من الطبيعي أن تقود العالم وترث الإمبراطورية البريطانية وتهيمن على جميع مستعمراتها في الشرق الأوسط، وكانت وسيلتها إلى ذلك من خلال الانقلابات العسكرية في العالم لتبديل الأنظمة وتغيير الحكام لخلق عالم جديد يصنع على عينها ويدين بالولاء لها ويكون على شاكلتها، برجالها التي تعيّنهم في البلدان العربية لحراسة مصالحها الشخصية ولتحقيق مطامعها الاستعمارية، لتعزيز إمبراطوريتها..

ولقد فطن لذلك مصطفي النحاس باشا، رئيس وزراء مصر إبّان حكم الملك فاروق وزعيم حزب الوفد، منذ انقلاب حسني الزعيم في سوريا. ولم يقاوم الملك فاروق هذا الانقلاب بل استسلم له على الرغم من أنه كان في إمكانه أن يحبطه في حينه، فلديه تنظيم عسكري كان يطلق عليه "الحرس الحديدي" الذي يدين له بالولاء، كما لم تتحرك القوات البريطانية المرابطة على خط القناة للتصدي لهؤلاء الحفنة من الضباط وتدعم الملك، فقد كانوا يعرفون الحقيقة كاملة أو كما يقولون العامة في مصر "بانت لبّتها"!

كانت هذه الانقلابات العسكرية وباء اجتاح البلاد العربية، ويُعد أعظم كارثة حلت على الأمة بأسرها، إذ كانت فاتحة تدخّل الجيوش العسكرية في سياسة دولها وسيطرة العسكر على مقاليد الحكم في البلاد وإنهاء الحياة السياسية تماماً وتجفيف منابعها كلية، وتحويل الأنظمة إلى أنظمة بوليسية (مخباراتية) تلعب فيها أجهزة الاستخبارات دوراً رئيساً في إدارة شئون البلاد، حيث يدير الجيش الأمن العسكري، بدلاً من حراسة حدود الوطن وحماية أراضيه

لقد نشرت "بي بي سي" البريطانية وثائق حول موقف بريطانيا بمناسبة الذكرى الواحد والسبعين للانقلاب، يتضح فيها أن اهتمام بريطانيا كان منصبّاً فقط على سلامة رعاياها من البريطانيين، وأنها أنذرت محمد نجيب شفهياً وأخبرته بأن بريطانيا وضعت قواتها في مصر والشرق الأوسط في حالة تأهب للتحرك لو تعرضت أرواح البريطانيين للخطر، وفي نفس الوقت أعطته تطميناً بأنه ليس لديها نية للتدخل ما لم تتعرض حياة البريطانيين للخطر..

بعد انقلاب يوليو، توالت الانقلابات العسكرية في المنطقة بدعم من الولايات المتحدة، وبيد خفية لا تخطئها العين من استخبارات عبد الناصر أيضا. ومن أشهر الانقلابات العسكرية التي حدثت أثناء الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، بعد الانقلاب في مصر، انقلاب وزير الدفاع العراقي "عبد الكريم قاسم" الذي أنهي الملكية في العراق عام 1958، وكان يغار منه عبد الناصر ويعتبره منافساً خطيراً له على زعامة الأمة العربية، ثم أطيح به بانقلاب آخر نفذه البعثيون عام 1963، وتم إعدامه ليتولى بعده صديق عمره "عبد السلام عارف" الذي لقي حتفه في حادث مريب، إثر سقوط طائرته، وأكمل من بعده أخوه "عبد الرحمن عارف" الذي أطيح به في انقلاب آخر عام 1968 عُرف بـ"الثورة البيضاء" في العراق بقيادة "أحمد حسن البكر" ونائبه "صدام حسين" الذي انقلب بعد ذلك عليه وانفرد بحكم العراق.

ومضى قطار الانقلابات العسكرية إلى اليمن في 26 أيلول/ سبتمبر 1962، حيث قام مجموعة من الضباط في الجيش بقيادة "عبد الله السلال" بالانقلاب على النظام الإمام الملكي في البلاد..

وواصل القطار سيره إلى ليبيا يوم 1 أيلول/ سبتمبر عام 1969، حيث قام "معمر القذافي" مع مجموعة من ضباط الجيش الصغار بالانقلاب على الملك "إدريس السنوسي" وأجبروه على التنازل عن الحكم، ليتوج نفسه بعدها زعيما لليبيا..

ووصل القطار إلى سوريا الحبيبة، في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970، ليقوده السفاح حافظ الأسد الذي باع هضبة الجولان السورية للكيان الصهيوني في حرب حزيران/ يونيو 1967، فكافأه الأمريكان بتنصيبه رئيساً لسوريا وتوريث الحكم لابنه من بعده.. هذا بخلاف الانقلابات العديدة التي حدثت في السودان والتي ذكرتها في مقال سابق..

كانت هذه الانقلابات العسكرية وباء اجتاح البلاد العربية، ويُعد أعظم كارثة حلت على الأمة بأسرها، إذ كانت فاتحة تدخّل الجيوش العسكرية في سياسة دولها وسيطرة العسكر على مقاليد الحكم في البلاد وإنهاء الحياة السياسية تماماً وتجفيف منابعها كلية، وتحويل الأنظمة إلى أنظمة بوليسية (مخباراتية) تلعب فيها أجهزة الاستخبارات دوراً رئيساً في إدارة شئون البلاد، حيث يدير الجيش الأمن العسكري، بدلاً من حراسة حدود الوطن وحماية أراضيه.

تغير الأنظمة في العالم العربي، وسقوط الملكيات فيها واستبدالها بالنظم الرئاسية، جاء من خلال انقلابات عسكرية من حفنة من ضباط الجيش الصغار، أغوتهم قوى خارجية طمعاً في الحكم والاستيلاء على ثروات البلاد، وليس من خلال ثورات شعبية كما حدث في أوروبا، ومع ذلك يصر أصحابها الانقلابيون على اعتبارها ثورات شعبية ويقيمون لها الاحتفالات السنوية

ولقد تم سريعاً بعد السيطرة على مقاليد الحكم، إنشاء نظاماً للتجسس ومراقبة للاتصالات مع التنصت الدائم على المواطنين، ولم تكفهم أجهزتهم الاستخبارية الحديثة التي استوردوها لأداء تلك المهمة، بل استخدموا الأفراد أيضا للإبلاغ عن كل ما لا يدين بالولاء لهذا النظام الانقلابي، فكان الأب يبلغ عن ابنه وجاره وزميله في العمل، وكذلك الابن يبلغ عن أبيه. وهكذا استطاعوا تمزيق النسيج الاجتماعي في المجتمع، وبلغت حالة البارانوية العنيفة لدى النظام ذروتها في الستينيات، مع تدخل الجيش مباشرة في الاعتقالات وإيداع المعتقلين في السجن الحربي التابع له، والذي شهد أبشع وأفظع أنواع الإجرام والتنكيل، من قتل واغتصاب (رجال ونساء) وتعذيب وحشي (مادي ومعنوي) غير مسبوق حتى إبّان الاحتلال الإنجليزي. فلم يراعوا في المواطن إلّاّ ولا ذمة، بل عملوا على إذلاله وإهانته والحط من كرامته والنيل من شرفه أمام زوجته وأبنائه، في الوقت الذي كان زعيمهم وقائدهم عبد الناصر يردد في خطبه مقولته الشهيرة "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"، وتصفق له الجماهير المغيّبة الحالمة بالحرية والكرامة والعدل في كل أنحاء الوطن العربي.

يقول المفكر الدكتور مصطفى محمود: "كان عبد الناصر يهتف مخاطبا كل مواطن مصري: ارفع رأسك يا أخي، ولكن المواطن المسكين والمخدوع لم يكن ليستطيع أن يرفع رأسه من طفح المجاري ومن كرباج المخابرات ومن خوف المعتقلات ومن سيف الرقابة ومن عيون المباحث، وساد مناخ لا يزدهر فيه إلا كل منافق، وأصبح الشعار هو الطاعة والولاء قبل العلم والكفاءة، وتدهورت القيم وهبط الإنتاج وارتفع صوت الغوغاء على كل شيء، وعاش عبد الناصر عشرين عاماً في ضجة إعلامية فارغة ومشاريع دعائية واشتراكية خائبة، ثم أفاق على هزيمة تقصم الظهر، وعلى انهيار اقتصادي وعلى مائة ألف قتيل تحت رمال سيناء وعتاد عسكري تحول إلى خردة، وضاع البلد وضاع المواطن"..

وكما رأينا، فتغير الأنظمة في العالم العربي، وسقوط الملكيات فيها واستبدالها بالنظم الرئاسية، جاء من خلال انقلابات عسكرية من حفنة من ضباط الجيش الصغار، أغوتهم قوى خارجية طمعاً في الحكم والاستيلاء على ثروات البلاد، وليس من خلال ثورات شعبية كما حدث في أوروبا، ومع ذلك يصر أصحابها الانقلابيون على اعتبارها ثورات شعبية ويقيمون لها الاحتفالات السنوية ويلقون فيها الخطب العصماء في ذكرى انقلابهم "المجيد"!

twitter.com/amiraaboelfetou