أخبار ثقافية

"أشكال" يوسف الشابي تُنطق الإسمنت والنار والجوائز

الفيلم منخرط في فضاء تونسي محلي في ظاهره، إلا أن شكله السينمائي جعله يحلق كونيالا
فاز فيلم "أشكال" للسينمائي التونسي يوسف الشابي مؤخرا، بجائزة "حصان ينينغا الذهبي" في الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان عموم أفريقيا للسينما والتلفزيون "فيسباكو" بواغادوغو.

وسبق ليوسف الشابي أن فاز بفيلم "نحو الشمال" على العديد من الجوائز الدولية.

عُرف المخرج يوسف الشابي بطموحه الجامح وبفنّه الشامل، وجمعه بين الإخراج والكتابة والموسيقى والإنتاج. عمل مساعد مخرج في فيلمين طويلين هما: "الدواحة" لرجاء لعماري و"ثلاثون" للفاضل الجزيري.

هذا الفيلم الروائي الطويل من إنتاج تونسي قطري فرنسي مشترك، والذي يمتد زمنيا على 92 دقيقة، فاز هذا الشريط الذي نال من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، مبلغ500 ألف دولار كدعم لمشاريع المخرجين من المملكة العربية السعودية، بثلاث جوائز، في مهرجان مونوبيليه للسينما المتوسّطية في دورته الـ 44، وهي: الجائزة الكبرى وجائزة النقاد وجائزة أفضل موسيقى. كما نال الفيلم إعجاب صنّاع السينما وإشادة النقاد، في عرضه العالمي الأول ضمن "قسم نصف شهر المخرجين"، خلال الدورة الـ 75 لمهرجان كان السينمائي، وعرض في العديد من المهرجانات الدولية منها مراكش ولندن.

بين حظائر البناء المهجورة، يُضرِم حارسُ عمارة في جسده النار، ويحُفّ الغموض بملابسات الحادثة. عنصران أمنيان (الممثّل محمد حسين قريع وفاطمة الوصايفي) يعثران على جثة متفحّمة، يدخل البطلان في رحلة بحث طويلة عن الحقيقة، وفي الأثناء يواجهان العديد من الألغاز والتعقيدات الغريبة. معا يعملان مع فارق كبير وجوهري، الأمنية فاطمة التي تتحرك داخل فضاء تلفه المخاطر، ومحفوف بالخطر، وفي مجتمع ذكوري، له دلالاته. الرجال الذين تشترك معهم في إماطة اللثام عن اللغز لا يرون في وجودها أمرا عاديا، فهي لا تجد معاملة تحترم ذاتها وتقدر ما تقوم به.


"أشكال " لا هوية لها ولا عنوان...

"أشكال" تحترق، نُزعت عنها صفة الإنسانية، النار والتضحية بإحراق النفس متلازمتان، لا شك أنهما كانا حاضرين في ذهن صاحب الفيلمَ برمّته، الذي لا بد انه استبطن حادثة البوعزيزي، الذي أضرم النار في جسده لحظة يأس. التضحية بالنفس، حركة يُمكن أن نفهمها من وجهات نظر مختلفة، منها وجهة النظر الصوفية والدينية.

لماذا يحرق شخص نفسه؟

هل كان مجرد مكان تدور فيه الأحداث، أم هو أكبر من مجرد فضاء استغله المخرج لينفخ فيه، حتى استحال شخصية مهمة بل الشخصية الاولى في الشريط؟

تتحرك الكاميرا داخل الحي تلاحق " شكلا " يسكن الفضاء، شكل أضرم النار في نفسه، شكل إنسان يحترق. من يفك اللغز؟

كم سيستغرق فك اللغز - إن تم ذلك- من الوقت؟

من هو الجاني / المجني عليه؟

ما هي الدوافع التي جعلته يعانق النار؟

سيبدأ فك اللغز أو الإيهام بذلك.

المكان هو العمود الصلب

قال المخرج عنه في حديث لـ"فرانس 24": "حدائق قرطاج مكان خلق بداخلي القصة، فهو بمثابة أستوديو جاهز يمكن التحكم فيه". المكان هو العمود الصلب الذي يتكئ عليه الشريط إذن، وهو الإطار الذي لعب المخرج على وحشته، وصمته، وغرابته."

اختيار المكان لم يكن اعتباطيا، فحدائق قرطاج المكان الراقي، الذي يجسد الثراء والحداثة، أصبح كتلاً إسمنتية مهجورة، ومدينة أشباح، اختارها المخرج لتكون مسرحا لفيلم بوليسي، يحاكي أفلام الرعب.

اكتشف المخرج هذه المنطقة من تونس من خلال والدته التي تمكّنت، بفضل مبادرة حكومية، من الحصول على قطعة أرض هناك لبناء مسكن خاصّ. يقول: "كانت تعيش هناك منذ ثلاث سنوات. حتى ذلك الحين، عاشت أسرتنا في أحياء مختلطة من الطبقة العاملة...حدائق قرطاج لا علاقة لها بذلك. من ناحية، هي مبنية على طراز دبي، بمبانٍ مستقيمة ومزججة للغاية، ومن ناحية أخرى هي مكان مخصّص لاستيعاب المجتمع الراقي، بمن فيهم أعضاء الحكومة. الإيجارات هناك مرتفعة، والحيّ لا حياة فيه، كل شيء يحدث داخل الشقق."

ومع الإسمنت والبنايات التي لا حياة فيها، آن الأوان لتلعب النار دورها الحاسم، في قوالب إسمنتية، تعطل بناؤها بفعل الثورة، التي كانت شرارتها الأولى من نزيف البوعزيزي، والنيران التي التهمت جسده. تضحية البوعزيزي، هي التي أوقفت البناء وتركت الأماكن موحشة في حدائق قرطاج.

هل يغرد طائر في حدائق تغوّل الإسمنت فيها؟

قرطاج، التي اندثرت وسط النيران ولم يبق منها سوى شعار الكبرياء: النار ولا العار. الذاكرة الدامية المستعرة، تشتعل من جديد. اختار المخرج فضاءه "لأنه يحمل خصوصية ترتبط ارتباطاً مباشراً بتونس، فهو مدينة سكنية كانت تُنفّذ لتشبه بكيانها وعماراتها مدناً كبرى مثل دبي، فتمثل حلماً راود النظام الحاكم القديم، الذي سقط إثر الثورة.

 "إنها تشبه المتاهة التي رغبتُ أن يدخلها المشاهد، من خلال أحداث الفيلم: بناءات شاهقة غير مكتملة، أعمدة إسمنتية لامتناهية، جدران غير مطلية، عالم رمادي قُد من كتل عمرانية ضخمة ومتلاصقة أشبه ما تكون بالكائنات الحجرية الباردة."

هل نحن أمام فيلم اعتنق الواقعية، وأوهم أنه ينتمي إلى الأفلام البوليسية، من خلال نشاط الشرطة المكثف، وضغط القيادات العليا لكشف لغز الاحتراق المتكرر؟

أم نحن بصدد التعاطي مع عالم خيالي غرائبي، يتجاوز حدود المنطق والعقل؟

أم هو مزيج بين الواقع والخيال العلمي والرعب؟

هل استعاد المخرج واقعة إضرام ''البوعزيزي'' النار في جسده، ليعيد النبش في ملفات لم تفتح، ونار أسئلة ملتهبة، لم تنطفئ نارها؟

هل هي ''نار'' الثورة المستعر لهيبها، تنتظر أن تكتمل فصولها؟

هل كان المخرج يجري جردا تاريخيا لمسار تخللته أحداث متباينة إبان الثورة؟

هل كان المخرج يسائل بدهاء، حصاد تلك الثورة التي ظلت في حالة مضطربة، تعكس حالة من الاحتراق؟

"أشكال" حلمي الذي تحقق

وفي لقاءات كثيرة أكد مخرج "أشكال" أنه حاول من خلال الفيلم "إلقاء الضوء على أحد القضايا الملحة والتغيرات التي أحدثها الواقع السياسي الجديد، والتغيرات التي طرأت داخل المجتمع التونسي خلال السنوات الأخيرة"، مضيفا أن فيلمه يطرح تساؤلات عدة و"لا يقتصر على تحديد واقع بعينه، رغم أنه يلامس ما عاشته تونس خلال الفترة الماضية، وأن المشاهد العربي دائما ما يربط بين الأعمال السينمائية والواقع، في حين أن السينما يميزها عنصر الخيال، الذي لا يجب أن يتحجج بالواقع ويبقى أسيرا لديه، وفي الفيلم مساحات واسعة للمغامرة والفانتازيا.

"أشكال" "هو حلمي الذي تحقق"، هكذا صرح المخرج يوسف الشابي، مضيفا: " كنت أرغب في تنفيذ شريط سينمائي من هذا النسق تتداخل فيه الفانتازيا مع الواقع. وهو نوع من الأفلام لا نصادفه كثيراً في السينما العربية عامة، والتونسية خاصة، وأرى فيه خلطة سحرية للسينما".

الفيلم منخرط في فضاء تونسي محلي في ظاهره، إلا أن شكله السينمائي جعله يحلق كونيا، باعتبار الحدث التونسي، غير منفصل عما يحدث في العالم.

تشكيلات لونية، ولعب بالضوء والنا ر، وتكوينات تبعث بالوحشة، وأصوات نباح الكلاب في ليل بهيم، وموسيقى طاغية، شكلت علامة مهمة جعلت المشاهد في حالة تأهب قصوى لاكتشاف ما هو مخيف، أو مرعب وغير متوقع. الفيلم صرخة من أجل للتعايش السلمي، ألم يقل الطبيب المُعالج حول الرجل ذي غطاء الرأس: "بعد صدمة مماثلة، يتعيّن أنْ يتعلّموا العيش من جديد". أي عيش؟ وعمن يتحدث؟