كما هو معلوم لكثيرين فإن الصدام
المسلح الذي وقع بين اللواء 444 وجهاز الردع في ضواحي العاصمة الليبية
طرابلس لم
يكن مستبعدا، فقط لم يكن توقيته معلوما، لكن إرهاصاته سبقت، وكانت اشتباكات شهر نيسان/ أبريل، والتدافع حول قضايا تتعلق بوزن وحضور كل منهما في العاصمة وضواحيها،
مؤشرا على أن الحالة بينهما هي الخلاف القابل للاشتعال، وهذا ما وقع خلال الأيام
الماضية.
وعن دوافع ومسببات النزاع الذي قاد إلى
الأحداث الأخيرة، فإن العامل الخارجي في
رأيي مرجوح وليس راجح، فالأقرب أن النزاع
محلي ويتعلق بتطور العلاقة بين الـ 444 والردع، والتي هي علاقة بالأساس وطيدة كون
الأول ابنا للثاني، إلا أنه ومع الأيام وتغير الظروف والأحوال ودخول عوامل أخرى
على الخط استقل اللواء الذي كان كتيبة تابعة للردع، ونما بشكل سريع وصار له وزنه
الكبير في المعادلة العسكرية والأمنية في العاصمة وضواحيها، فيما ظل الردع ينظر
إليه كجزء من قوته فنشأ الخلاف وتحول إلى نزاع أو صراع.
وعن إدارة هذه الأزمة الجديدة
المتجددة، ظهر أن السلطة التنفيذية المعنية بإدارة الملف العسكري والأمني كانت
غائبة عن التطورات المتعلقة بالقوى النافذة في العاصمة وضواحيها، والمفترض أنها
مدركة لاتجاه العلاقة بينها وأن هناك مؤشرات على قرب تفجر الوضع.
خلال الخمس سنوات الماضية شهدت الساحة
العسكرية والأمنية في العاصمة تحولات جذرية نتيجتها كانت تعاظم قوة ونفوذ عدد
محدود من التكتلات العسكرية والأمنية وضعف وتراجع الأخرى الأقل قوة ونفوذا. فقد
تلاشت مجموعات مسلحة وخرجت أخرى من العاصمة بعد أحداث العام 2018م، وجاءت خطة
"باولو سيرا" لترتيب الوضع العسكري والأمني في العاصمة وفقا للتطورات
الجديدة معتمدا على القوى الأكبر والأكثر حضورا.
أحداث آب/ أغسطس 2022م مثلت منعطفا
آخر غيَّر من خارطة النفوذ العسكري والأمني في طرابلس ليتقلص عدد المجموعات
المسلحة والكتائب لصالح تعاظم وتوسع الأقوى منها وهي جهاز الردع وجهاز دعم
الاستقرار واللواء 444 وبعض المكونات العسكرية والأمنية الأخرى.
إلى أن يتعدل الوضع السياسي بتوافق له وزنه أو انتخابات تفرز سلطة تنفيذية كاملة الشرعية، فإن هناك حاجة ملحة للتفاهم بين فرعي السلطة التنفيذية، وهما المجلس الرئاسي والحكومة، على ترتيبات تنزع فتيل التأزيم بين الفواعل العسكرية والأمنية، وتملأ الفراغ الذي يمثل نقاط التماس في النفوذ والتموقع
ولأن الفراغ السياسي في ازدياد وليس
العكس، ولأن الأزمة السياسية مستفحلة وتفسح المجال للتدافع العسكري والأمني بل
وتغذيه أحيانا، فقد شهدنا جولة من الصراع وربما لن يمضي وقت طويل حتى نشهد جولات أخرى.
وعندما يكون هناك ضعف في القيادة السياسية المنوط بها إدارة الملف العسكري
والأمني، يصبح الوضع العسكري والأمني خارج سلطتها وتتحكم فيه محركات أخرى أهمها
رؤية القوى العسكرية والأمنية لنفسها وثقلها ودورها بعيدا عن أي تدبير سلطوي
وتخطيط علوي، بل وفي غيابهما تماما.
ونجحت السلطة التنفيذية في "احتواء
النزاع"، ونقصد أنها نجحت في إيقاف
المواجهات واحتواء آثارها المباشرة، وعادة
ما تنجح السلطات التنفيذية والروافد الاجتماعية في احتواء النزاعات التي تتفجر بين
الفينة والأخرى، لكنها تخفق في المرحلة التي تلي في إدارة النزاعات وهي
"تحويل النزاع"، وهي المرحلة التي تعنى بمعالجة جذور الأزمة والأسباب
الرئيسية للنزاع.
صحيح أن جذور الأزمة والأسباب الرئيسية
للنزاع تعود في جزء مهم منها إلى الوضع السياسي الهش والذي من مظاهره نقص شرعية
السلطة التنفيذية، غير أنه أمام الأخيرة هامش إذا تحركت فيه بكفاءة فستنجح في
التقليل من مساحة الاحتكاك والنزاع.
وإلى أن يتعدل الوضع السياسي بتوافق له
وزنه أو انتخابات تفرز سلطة تنفيذية كاملة الشرعية، فإن هناك حاجة ملحة للتفاهم
بين فرعي السلطة التنفيذية، وهما المجلس الرئاسي والحكومة، على ترتيبات تنزع فتيل
التأزيم بين الفواعل العسكرية والأمنية، وتملأ الفراغ الذي يمثل نقاط التماس في
النفوذ والتموقع، وهذا ممكن وسيكون له أثره الإيجابي في تأمين العاصمة من أي حوادث
مروعة وكارثية كالتي شهدتها خلال الأيام القليلة الماضية.