أثبتت حملات مكافحة فيروس كوفيد 19 المسبب لمرض الكورونا، أن التضامن
الأممي كفيل باجتثاث الكثير من العلل، فقد سطر بنو البشر على اختلاف أجناسهم
وسحناتهم ومِللِهم ونِحلِهم، ملحمة بطولية دامت عامين، ونجحوا في تحجيم أخطر جائحة
تعرضت لها مختلف الشعوب في التاريخ الحديث، وعلى غير العادة، مدت الدول الغنية يد
العون السخية للبلدان الفقيرة، وزودتها بالأمصال الواقية من الفيروس، ولم يدفعها
لذلك الحس الإنساني، بل إدراك أن الفيروس عابر للحدود برا وبحرا وجوا بدون فيزا،
وطالما أنه نشط في بقعة ما، فستظل باقي بقاع
العالم مرشحة للاجتياح، وفوق هذا كله
فقد أفادت الكثير من الدول الغنية من حملة مكافحة الكورونا.
بنهاية عام 2021 كانت شركة فايزر الأمريكية قد سيطرت على معظم سوق
لقاح كورونا، الذي باعت الجرعة الواحدة منه بعشرة دولارات أمريكية، وارتفعت
إيراداتها السنوية في تلك السنة إلى أكثر من 81 مليار دولار، منها 36.8 مليار
دولار من لقاحات كورونا. ثم بلغت عائدات خزائنها من اللقاح وعقاقير علاج الكورونا
في عام 2022 أكثر من خمسين مليار دولار، بينما جنت شركة استرا زينيكا البريطانية
أكثر من 13 مليار دولار من مبيعات اللقاح.
بعد حملات دولية مكثفة قام بدور المنسق فيها هيئة الصحة العالمية،
كاد فيروس كوفيد 19 أن يصبح نسيا منسيا، وصار ما بقي منه قيد التداول شديد
الهشاشة، ولا يختلف كثيرا في أعراضه وعواقبه عن الأنفلونزا العادية، ولكن عللا لا
تقل فتكا عن الكورونا لا تزال تجتاح أقساما كبيرة من أفريقيا وآسيا وأمريكا
الجنوبية، دون أن تأبه لها الدول الغنية، بل إن هذه الدول هي من تسبب في تفاقمها
واتساع رقاعها.
بعد حملات دولية مكثفة قام بدور المنسق فيها هيئة الصحة العالمية، كاد فيروس كوفيد 19 أن يصبح نسيا منسيا، وصار ما بقي منه قيد التداول شديد الهشاشة، ولا يختلف كثيرا في أعراضه وعواقبه عن الأنفلونزا العادية، ولكن عللا لا تقل فتكا عن الكورونا لا تزال تجتاح أقساما كبيرة من أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، دون أن تأبه لها الدول الغنية..
فالملاريا التي يتسبب فيها الناموس أصابت في عام 2021 وحده أكثر من
247 مليون شخص في المناطق المدارية، وفي أفريقيا وحدها يموت بضعة آلاف يوميا بسبب
طفيل الملاريا، فنحو 95% من المجموع العالمي لحالات الإصابة بالملاريا، وما نسبته
96% من الوفيات الناجمة عنها تحدث في أفريقيا، حيث يمثّل الأطفال دون سن الخامسة
نحو 80٪ من مجموع الوفيات الناجمة عن الملاريا، ومع هذا الوضع المأساوي لم تحرك
شركات صنع الأدوية الغربية ساكنا للتوصل إلى مصل يقي من الملاريا، ولكنها لا تقصر
في اختراع عقاقير تعالج المرض أو تخفف وطأته، وتعمل بهمة ودأب على رصد الطفرات
التي تطرأ على الطفيل المسبب للملاريا، كي تواكب ذلك بإصدار العقاقير اللازمة
لقمعه، وهكذا فان تفشي الملاريا يعود ب"الخير" على شركات تصنيع الأدوية،
ولهذا ما إن تم التوصل إلى وسيلة لإصابة أنثى البعوض وهي الناقل للملاريا بالعقم،
حتى أقامت تلك الشركات مأتما وعويلا على "البيئة".
وأس العلل العضوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية
والأخلاقية هو الفقر، وجاء في تقرير للأمم المتحدة أن عامي 2020 و2021 شهدا، وبسبب متطلبات مكافحة الكورونا،
دخول 165 مليون شخص في دائرة الفقر من مختلف دول العالم، حيث إن دخل الفرد منهم
تدنى إلى ما دون الأربعة دولارات يوميا، ويعرِّف البنك الدولي الفقر على أنه حيث
ينخفض دخل الفرد عن 600 دولار أمريكي سنوياً، ويقول إن هناك 45 دولة يتفشى فيها
الفقر وبائيا معظمها في أفريقيا، منها 15 دولة يقل فيها متوسط دخل الفرد عن 300
دولار سنويا. وحتى في دولة غنية مثل الولايات المتحدة هناك 30 مليون فرد (أي 15%
من السكـان) يعيشون تحـت خط الفقـر في الولايات المتحدة الأمريكية، أخذا في الاعتبار
أن معايير الفقر في السودان مثلا تختلف عن معاييره عند الأمريكان.
ما يزيد حالات الفقر تفاقما وفق تقرير آخر للأمم المتحدة، هو أن 3.3
مليارات شخص، أي نحو نصف سكان العالم، يعيشون في بلدان تنفق في تسديد فوائد الدين
مبالغ أكبر من تلك التي تنفقها على التعليم أو الصحة. ولم تجد المنظمة الدولية
سبيلا لعون هذه الثلاثة مليارات ونيف من البشر، سوى نصح حكوماتها بتأجيل سداد
ديونها الخارجية.
عندما استشرت متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) في الولايات
المتحدة، وصار ضحاياها يتساقطون موتى، هرعت شركات الأدوية الأمريكية لاختراع
عقاقير تمنع اشتداد وطأة المرض ونجحت في ذلك، وعندما كادت المتلازمة أن تتحول إلى
وباء في جمهورية جنوب أفريقيا، اضطرت حكومتها إلى إعطاء شركات الأدوية المحلية
تصريحا باستنساخ تلك العقاقير، في تحد لحقوق الاختراع لمنتجيها الأصليين الذين
ارتفعت عقيرتهم بالاحتجاج، ولكن جنوب أفريقيا لم تأبه لهم وواصلت إنتاج عقاقير الأيدز
محليا، وفعلت الأرجنتين أمرا مشابها في عام 2000 عندما تكاثرت عليها الديون،
فامتنعت عن السداد تماما طوال خمس سنوات، حتى أرغمت الدائنين على إلغاء بعضها،
وإعادة جدولة البعض الآخر.
****
*الفقوس نوعٌ من القثاء، يشبه الخيار شكلاً، إلا
إن الناس ظلوا يفضلون الخيار عليه، وتستخدم عبارة "خيار وفقوس" للإشارة
إلى أن هناك تفريقاً ما، غير منصف، بين شخصين أو جماعتين أو أمرين بتفضيل واحد على
الآخر على ما في ذلك من ظلم للآخر الذي تم إهماله، وهكذا كانت الكورونا هي الخيار
(بمعنى صنف الخضار، وبمعنى ما وقع عليه الاختيار)، الذي حظي بالاهتمام، وتم إهمال
فقوس الملاريا والفقر والإيبولا وغيرها، لأنها علل الدول النامية وشبه النامية.