اعتدت عبر هذا المنبر الكتابة حول المسألة
الليبية، ولا أذكر أني تحولت عنها إلا مرات قليلة كانت حول القضية
الفلسطينية،
وهنا أنا أتحول مرة أخرى، وكف لا وما يجري اليوم هو الحدث الأكبر في الشأن
الفلسطيني منذ عقود طويلة.
تعلمنا ونحن نقارب قضايا النضال والكفاح أن
لا نواسي أصحابها، وكان وسيظل هذا دأبنا مع النضال والمقاومة الفلسطينية، فنحن هنا
لا نقف لنأسف على حالهم وما يلاقونه من الصهاينة، وإنما نقف وقفة إكبار وإجلال
لصمودهم، فهذا
الصمود المنقطع النظير حرك فينا مشاعر مختلفة وعمق في وجداننا إحساسا
غاب عنا وثبت في ضمائرنا معاني ما كانت لتثبت لولا دروس الفلسطنين في
غزة في الصبر
والشموخ واليقين بعدالة القضية وسلامة المسار.
صمود أهل غزة جاب العالم وحرك قلوب وضمائر
كل ذي قلب وضمير، ولقد كان الأثر الأكبر للتضحيات الفلسطينية في غزة هو اتجاه
الرأي العام العالمي الذي عبر عن نفسه كما لم يقع مع أي قضية عادلة منذ الحرب
العالمية الثانية إلا القليل.
جنون الصهاينة الذي أفقدهم البوصلة وكشف زيف
شعاراتهم ورواياتهم عن المظلمة والدولة المدنية الديمقراطية العصرية اليتيمة في
محيطها الجغرافي إنما جره إلى مستنقعه الصمود الأسطوري للفسلطينين في غزة، فبتنا
نسمع ونرى استنكارا وتنديدا حتى في الدول والشعوب التي عرفت بدعمها لإسرائيل.
صراخ عضو مجلس الشيوخ الأمريكي وبكائه، وهو
من غير الأصول العربية أو الإسلامية، معترضا على سياسة الولايات المتحدة وموقفها
من المجازر التي وقعت في غزة خلال الأيام الماضية، إنما هو صدى لعزة الغزاويين
وصبرهم على الويلات التي مرت بهم.
والمثال تكرر في البرلمانات الأوروبية،
ودوائر الفكر والفن والرياضة برموزها الكبار، دع عنك الاحتجاجات لأول مرة في مدن
عديدة لم يعرف لها موقفا داعما للقضية الفلسطينية في السابق.
المفارقة أن ردود الفعل العالمية خارج
المحيط العربي والإسلامي هي الأقوى وبالتالي هي الأكثر تأثيرا في مسار القضية، حتى
أن المسألة الفلسطينية، وهي خارج النطاق الجغرافي والديني للفضاء الفربي، بدا أنها
تشكل أحد دوائر التدافع بين شرائح مهمة من هذه المجتمعات وبين حكوماتها.
الصمود الغزاوي عزز بشكل كبير من فرص تحقيق العدالة وإنصاف الفلسطينيين واسترجاع حقوقهم المسلوبة، وقد نجح أهل غزة في نقل هذا الاعتقاد إلى مساحات واسعة على الكرة الأرضية،
ونفهم من "فزعة" حلفاء إسرائيل
أبعد من تعاضد حلفاء المصالح او حتى الايديولوجيات، فهناك دلالة لهذا الدعم غير
المسبوق تتعلق بتقدير الموقف وخطورته على الدولة الهجينة والمشروع المستورد.
إسرائيل قامت واستمرت بروافع عديدة من أهمها
الدعاية والإعلام الذين صنعت بهما رأي عام غربي متعاطف معها وداعم لسياساتها،
ويبدو أن الهيمنة الإعلامية الإسرائيلية إلى تراجع وعلامات خسارة معركة الصوت
والصورة والكلمة ظاهرة للعيان، عليه فإنه من المحتمل أن تخطو بعض الدول الغربية
الداعمة لها خطوات إلى الوراء إذا استمر التدافع بوتيرته الراهنة. هذا التغيير
الهائل في اتجاه القضية إنما وقع بفعل جلد الفلسطينيين وتحملهم للإجرام الصهيوني
الوحشي ومقاومتهم له.
الصمود الغزاوي عزز بشكل كبير من فرص تحقيق
العدالة وإنصاف الفلسطينيين واسترجاع حقوقهم المسلوبة، وقد نجح أهل غزة في نقل هذا
الاعتقاد إلى مساحات واسعة على الكرة الأرضية، فلقد استمعت إلى عشرات المقاطع
لأمريكيين وأوروبيين من بينهم يهود يتحدثون بثقة عن جرم المحتل وعدالة موقف أهل
غزة كونهم يدافعون عن حقوقهم ويقاومون احتلالا غاشما. هذا الوضوح في الرؤية
والموقف على مستوى شرائح واسعة من الغربيين إنما هو تحول له ما بعده ما استمر
الصمود وطال الصبر.
اتجاه الأحداث في المنطقة سيكون لصالح تغيير
في المنظومة العربية، فالمنطق وشواهد التاريخ القديم والحديث يحكم بذلك، فالقضية
الفلسطينية جوهرية في تحديد العلاقة بين الحكام والمحكومين في العالم العربي، ولأن
اتجاهاتهما اليوم وغدا إلى تضاد، فإن تطورات مهمة في المنطقة ستقع قد تتبعها
تحولات كبرى خلال الأعوام القادمة.