هل كان المقاتل الغزاوي وهو يسمي غزوته التاريخية الطوفان يخطط أيضا لهذه
المواجهة الكونية من التعاطف مع قضيته ومع حقوقه؟ هل كان ينوي أن يطلق هذه الموجة
بل التسونامي من الوعي في عواصم العالم؟ هل كان يظن أن في العالم بقية من عقل
وضمير سيثور معه ضد الصهيونية العالمية وصنائعها من أنظمة الغرب قبل أنظمة العرب؟
لقد كسب المقاتل الغزاوي وأهله الواقفون تحت وابل القنابل قلب العالم، وهذا إنجاز وحده
يردف الإنجاز العسكري على الأرض التي تحارب معه.
الحق قريب من القلوب السليمة
إن المرء لينظر إلى هذه العواصم التي تموج بالخلق يرفع الراية
الفلسطينية
ويصرخ بالحق فيقول ما كان أقرب هذا الشارع إلى الحق. لقد غم على هذه الشوارع بألف
دعاية كاذبة فظننا أنه قد مات ضميره، وكانت آخر الأكاذيب وأكبرها وأشدها تأثيرا في
الضمائر الحية الحديث عن صور قطع رؤوس الأطفال التي صدقها الرئيس الأمريكي وبنى
عليها فلم تظهر للناس أبدا.. تلك الكذبة كانت ضربة مطرقة مدوية في الضمائر الحرة،
ومنها استفاق الناس إلى أن الكذبة تخفي أكاذيب. وبعد سبعين عاما من الدعاية
الصهيونية تبين أن الصهاينة هم مجموعة من المجرمين والقتلة الذين لا يتورعون عن
قتل الأطفال والنساء ولا يتورعون عن الكذب على العالم.
بنى هذا الكيان لنفسه صورة الحمل الوديع الذي يعيش وسط غابة من الوحوش، وكانت آلة الدعاية الفرنسية المتصهينة خاصة (ومنها يأخذ الكثيرون) تردد كل ساعة وصف الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. تهشمت هذه الصورة وذهبت الأموال التي أُنفقت في بنائها سدى، وخرجت الشعوب المتعلمة من تحت هذا السقف المتهدم ونجا الكثير بعقله. والأمر مرشح للاتساع بين الناس وفي أوساط الإعلام والأكاديميا، بشرط أن يكون هناك من يواصل تنبيه الغافلين وشد أزر المنتبهين بما يثبت زيف صورة الكيان المصنوعة بالأكاذيب
هناك سؤال نسمعه الآن في العالم باللغات التي نقدر عليها: ما جدوى بقاء هذا
الكيان الإجرامي؟ كيف تشكل في غفلة من الناس وكيف تحول إلى دولة من القتلة ومغتصبي
الحقوق؟ ويزيد الكثيرون: كيف لنا أن ننفق من أموال ضرائبنا لدولنا وحكوماتنا على ما
به يقتل هذا الكيان بشرا مثلنا لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا هناك في أرض هي لهم
بالتاريخ وبالجغرافيا؟ ولا نظن إلا أن هذا السؤال سيتطور إلى سياسات ليفرض نفسه في
كل انتخابات. هنا حصل التحول والنصر، ونظن يقينا أن كل سياسي غربي يود الوصول إلى
حكم في مكان ما سيفكر بشكل جديد.
كان التفكير السابق كيف تقدم خدمة للكيان لتفوز في بلدك بكرسي، الآن سيكون
التفكير كيف تتملص من الكيان لترضي شعبك فتفوز بحكمه. هذا نصر حصل قبل أن تتوقف
الطائرة عن القصف، لكنه نصر يحتاج من يحوله إلى نظرية ليخرج من العاطفة إلى الفعل.
تهشم صورة الكيان
لقد بنى هذا الكيان لنفسه صورة الحمل الوديع الذي يعيش وسط غابة من الوحوش،
وكانت آلة الدعاية الفرنسية المتصهينة خاصة (ومنها يأخذ الكثيرون) تردد كل ساعة
وصف الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. تهشمت هذه الصورة وذهبت الأموال التي أُنفقت
في بنائها سدى، وخرجت الشعوب المتعلمة من تحت هذا السقف المتهدم ونجا الكثير بعقله.
والأمر مرشح للاتساع بين الناس وفي أوساط الإعلام والأكاديميا، بشرط أن يكون هناك
من يواصل تنبيه الغافلين وشد أزر المنتبهين بما يثبت زيف صورة الكيان المصنوعة
بالأكاذيب، ووجب منع ترميم الصورة ليكتمل النصر والتحرر. تحرر العالم من الصهيونية
وهو رديف تحرر فلسطين من الاحتلال. من سيفعل ذلك؟ هل نطلب من الغزاوي أن يحرر
العالم؟
لقد فعل الغزاوي ذلك ويمكنه أن يفتح
غزة لعيون هذه الموجة العالمية من
التعاطف، فتكون موطن لقاء لعشاق الحرية ليروا أثر العدوان أولا ثم ليساهموا في
الترميم بجهودهم، وتكون ساحات غزة ساحات نقاش كوني فيما بعد الصهيونية نعم يوجد
محور نقاش نسميه ما بعد الصهيونية.
في الطريق إلى ذلك هناك من لا يجب عليه المشاركة في هذا النقاش العالمي،
وهما صنفان متضادان يلتقيان في تشويه نصر غزة (ويخذلان في هذه اللحظة الشوارع
العربية أن تقوم مع غزة).
الأول، يسار عربي يزعم الحداثة ويجادل في حرب غزة ويقول كيف لمعركة تحرر أن
تصير جهادا في سبيل الله، ويتكبر على حرب يراها دينية ويستطيب بل ينتظر أن ينهيها
الكيان بردم المقاتل الإسلامي تحت الركام حتى لا تفسد حداثة الحداثي. وهؤلاء
منتشرون، حيث مرت يد النخاس الفرنسي من شمال أفريقيا إلى الشام، هؤلاء عميان
الأيديولوجيا وهم بقية باقية من الصهيونية.
وصنف ثان متأسلم واقف الآن في رفاهه النفطي يغمض عينه عن خراب غزة ويحسب
عدد الذين اشتروا مصاحف من موقع أمازون ويقول انتصر الإسلام، ويظن أن حرب غزة هي
دعوة لشراء المصاحف، ولو دُعي إلى غزة لأفتى بطاعة ولي الأمر قبل الذهاب.
الشارع العربي في حالة بهتة
المقارنة فرضت نفسها بين صور عواصم العالم تتحرك وكثير من جمهورها يتعرف
على القضية منذ أقل من شهر (وقد غُيب عنها دهرا طويلا)، وبين شارع عربي وُلد في
هذه القضية لكن يُصاب المرء بالغثيان من مبررات الركود في هذا الشارع.
الشارع العربي مريض ولا أظن غزة تعالجه، فمرض الاستئصال المتفشي في نخبه
ونقاباته وأحزابه يمنع السير وراء غزة؛ كيف نتعاطف مع غزة وغزة يحكمها "الخوانجية"
الرجعيون؟ وهذه حربهم وليست حربنا، وإذا انتصروا فيها سيحكمون المنطقة! لذلك وجب
أن يموت الشارع وأن تبرد موجات الخروج الشعبي العفوي التي تنطلق من فرط الألم، فلا
تجد توجيها سياسيا. لقد خرب هذا المرض الفرنسي تجربة بناء الديمقراطية في شمال
أفريقيا ومصر، وهو واقف الآن يخنق الشارع لكي لا يثور مع غزة؛ الشارع الذي انفلت
ذات يوم من الرقابة فجمع الشعارين الأقدس عنده: إسقاط النظام وتحرير فلسطين.
انفجارات الشارع العربي العفوية تحتاج قيادة وهذه القيادة لم تظهر بعد حرق الإخوان في رابعة، لذلك نرى الشارع العربي مقهورا وعاجزا، فضغطُ الاستئصاليين عليه وتخذيلهم أقوى حتى من شرطة الأنظمة الحاكمة
انفجارات الشارع العربي العفوية تحتاج قيادة وهذه القيادة لم تظهر بعد حرق
الإخوان في رابعة، لذلك نرى الشارع العربي مقهورا وعاجزا، فضغطُ الاستئصاليين عليه
وتخذيلهم أقوى حتى من شرطة الأنظمة الحاكمة.
وإنه لمؤلم ومحزن أن نرى الشارع الغربي يتجاوز عوائقه الذاتية ويقف مع الحق،
بينما يقف جزء كبير من الشارع العربي مع الكيان وينتظر الإجهاز على حماس "الخوانجية"،
بل يمجد سلمية عباس ويراه سلطة شرعية (بلغة الممثل الشرعي الوحيد).
لكن رغم الألم فهذه بداية تطهير الشوارع، فقد تميّز المُخذلون وعُرفت
مواقعهم، وهم عمل غير صالح ولا منجاة من الطوفان ولو بعيد حين..وهذا أيضا انتصار
برائحة شهداء غزة.