يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، استيقظت إسرائيل على اكتشاف خطير؛ أن ما بدا لها كلاما فارغا من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد تحرير جنوب لبنان العام ٢٠٠٠ عندما قال؛ «إنها والله أوهن من بيت العنكبوت»، هو فعلا حقيقة.
لقد تمكن بضع مئات من مقاتلي القسام من تحقيق الهزيمة الأكبر لها في تاريخها منذ نشأتها، فهم لم يقضوا فقط على فرقة الجيش الإسرائيلي المكلفة حماية
غزة، ولم يكتفوا بالسيطرة على كل مستوطنات غلافها، وإنما أخذوا أكثر من مئتين من الجنود والمدنيين كأسرى ومحتجزين.
في هذا اليوم اكتشف المجتمع الإسرائيلي الحقائق الآتية:
أولا؛ أن الجيش الذي يعتمد عليه ويثق فيه ويأتمنه على نفسه قد خذله، فهو لم يفشل في الدفاع عن الشعب الإسرائيلي فقط، وإنما فشل في الدفاع عن نفسه.
ثانيا؛ أن هذا الجيش قد فقد توازنه، وأن حملته لتصفية مقاتلي القسام الذين سيطروا على غلاف غزة قد أدت لمقتل العشرات، وربما المئات من الإسرائيليين أنفسهم.
ثالثا؛ أن دولتهم قد فُضِحت، وأن كل ما قيل لهم بأن القضية الفلسطينية يمكن دفنها تحت التراب وإقامة السلام مع العرب دون حلها، هو كلام فارغ بلا معنى.
رابعا؛ أن دولتهم لا يمكنها أن تحمي نفسها بعيدا عن الولايات المتحدة، وأن الأخيرة لا غنى لهم عنها أبدا لحماية أنفسهم، وأنها من ثم ليست «ذخرا عسكريا استراتيجيا»، لا لولي نعمتهم أمريكا ولا لأي كان.
هذه الدولة بنت نفسها على العديد من الأوهام، وأهمها أنها قادرة ليس فقط على سحق أي دولة عربية بشكل منفرد، وإنما على سحق جميع الدول العربية مجتمعة فيما لو قررت أن تخوض الحرب معها.
المشكلة الأكبر أن هذه الدولة صدقت الأوهام التي صنعتها بنفسها بعد حرب الأيام الستة ١٩٦٧، وعززتها بعد معاهدة السلام المنفردة، التي وقعها الرئيس السادات معها مُخرجا مصر من دائرة الصراع.
والمشكلة الأكبر أنها تصرفت بناء على هذه الأوهام.
لقد أدارت ظهرها للصراع مع الفلسطينيين، وبدأت بضم أرضهم شيئا فشيئا.
لقد سرعت عملية تهويد القدس، وحاصرت الفلسطينيين في مساحة تقل عن ٤٠٪ من مساحة الضفة في كانتونات مُقطعة الأوصال، وأطبقت حصارا قاتلا على غزة.
ثم قامت بتجنيد الولايات المتحدة لابتزاز الدول العربية لإقامة علاقات سلام معها، تحت ذريعة أنها «ذخر عسكري استراتيجي» في مواجهة إيران.
لعل الأهم أن سقوط كل هذه القناعات الكاذبة، الأوهام بالأحرى التي عاشت وتغذت عليها دولة
الاحتلال، لم يأتِ على يد دولة قوية مثل إيران، أو على يد دولة لها جيش تعداده مليون جندي، ولديها مئات الطائرات والمدافع وعشرات السفن الحربية البحرية مثل مصر، ولكن على يد
المقاومة الفلسطينية، وليس كل المقاومة، ولكن على يد مقاتلي حركة «حماس».
إن كل ما تقدم يفسر لماذا فقدت دولة الاحتلال عقلها واتزانها، ويفسر سلوكها الإجرامي في قتل المدنيين العزل والأبرياء، وهدم البيوت والمستشفيات والمدارس وأماكن النزوح، وحرب التجويع (الحقيقة حرب الإبادة والتطهير العرقي) التي تمارسها في غزة.
والواقع أن هذه الدولة التي فقدت صوابها قد حشدت كامل قوتها الاستراتيجية (باستثناء السلاح النووي) للانتصار في معركتها على الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة، لكنها بعد ٧٧ يوما من القتال تجر الفشل بعد الفشل.
لقد حشد «الجيش الأقوى» في الشرق الأوسط، نصف قواته للانتصار (النصف الآخر على الحدود الشمالية) على بضع عشرات من الآلاف من المقاتلين، في منطقة مساحتها لا تزيد على ٣٦٠ كيلومترا مربعا، ولا يمتلكون سوى سلاح قاموا بتصنيعه بأنفسهم.
وقام هذا الجيش بإلقاء ما يزيد على خمسين ألف طن من القنابل على غزة وأهلها، ودفن الناس أحياء تحت البنايات التي دمرها، وداست دباباته بجنازيرها الجرحى والموتى، وقام بهدم غالبية أحياء غزة، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال المقاومة صامدة وتوقع فيه الخسائر المؤلمة وتَعده بالهزيمة.
آن للإسرائيليين أن يستيقظوا من غفلتهم على وقع الحقائق التي بينتها أحداث ٧ تشرين الأول/أكتوبر، وهي حقائق كانت دائما موجودة، ولكن دولتهم كانت دائما ترفض رؤيتها وتشيح البصر عنها. هذه الحقائق أربع:
أولا: لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن الصراع لاستعادة حقوقه منذ مائة عام، وهو لن يتوقف عن ذلك أيا كانت نتائج الحرب في غزة.
ثانيا: لن يكون هناك سلام أبدا في هذه المنطقة، لا مع الفلسطينيين ولا مع العرب قبل استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه.
ثالثا: دولتكم ضعيفة بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، وهو ضعف لا يمكنكم تعويضه بكميات هائلة من السلاح المتقدم. تعويضه ممكن فقط بعلاقات سلام مع العرب تبدأ بإنهاء احتلالكم للأراضي الفلسطينية والعربية التي تحتلونها منذ العام ١٩٦٧.
رابعا: أنتم دولة لا تستطيع حماية نفسها، ومن يحميكم هو دول عربية لها حدود معكم. إن التغيير هو مسار التاريخ، وإذا تغير الحال، لن يكون بإمكانكم حماية أنفسكم. الشعوب العربية جميعها مثل اليمن، لا تنخدعوا بالسلام مع البعض.
إن فشلكم في الاعتراف بهذه الحقائق لن يجلب لكم السلام أبدا.
كلمة أخيرة. الدرس الذي تعلمه ويتعلمه الشعب الفلسطيني من حربكم على غزة، وتتعلمه الشعوب العربية أيضا، وعلى عكس ما تتوهمون، هو أن مقاومة هذا الشعب عليها أن تمتلك سلاحا أقوى لتحمي به شعبها ونفسها.
(الأيام الفلسطينية)