كتب

إسرائيل في وحل غزة.. قراءة أمريكية لتداعيات حرب طوفان الأقصى

ما لم تلتزم الولايات المتحدة بدبلوماسية صارمة لحل الصراعات وإدارة الأزمات بشكل سليم، خاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث لديها في المنطقة نفوذ من نوع فريد، فإن هذه الصراعات سوف تتصاعد إلى الأبد.
في شباط/ فبراير 2024، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن CSIS، تقريرا عن العالم في 2024، عنوانه "التوقعات العالمية لعام 2024: عالم منقسم". جاء التقرير في أربعة أجزاء. ضم الجزء الثالث منها توقعات المركز عن حرب أوكرانيا وحرب غزة. ونقدم اليوم في هذا المقال عرضا موجزا لما كتبه خبراء المركز عن حرب غزة، الذي جاء تحت عنوان: "تداعيات حرب إسرائيل وحماس"، وتضمن الفصول التالية:

1 ـ العواقب طويلة المدى لحرب إسرائيل وحماس: بقلم "إليوت كوهين"، أستاذ كرسي الاستراتيجية بالمركز.

2 ـ هل يمكن لإسرائيل أن تتعلم من حروب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان؟: بقلم "دانيال بايمان"، زميل مشروع التهديدات العابرة للحدود.

3 ـ حل الدولتين: بقلم "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط، وأستاذ كرسي "زبيغنيو بريجينسكي" للأمن العالمي والجيواستراتيجية.

4 ـ الحروب الأبدية الجديدة: بقلم "ناتاشا هول"، زميل برنامج الشرق الأوسط بالمعهد.

5 ـ كيف ستخرج التكنولوجيا الإسرائيلية من الصراع في غزة؟: بقلم "إميلي هاردينج"، نائب مدير برنامج الاستخبارات والأمن الدولي والتكنولوجيا بالمعهد.

العواقب طويلة المدى للحرب بين إسرائيل وحماس

بالنسبة لإسرائيل في السنوات المقبلة، فقد تحطم الشعور بالأمن بعد عقود من الصراع المحدود مع جيرانها. وقد عبر عن ذلك ضابط مخابرات إسرائيلي مخضرم، فقال؛ إن الزلازل لها توابع ارتدادية، لكنها أحيانا تكون أكثر أهمية من الزلزال ذاته. ويوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو مثال عملي على ذلك، فقد كان حدثا تحويليا بالنسبة لإسرائيل كحرب الأيام الستة 1967 أو حرب يوم الغفران 1973. إذ عانت إسرائيل فيه من هجوم لا مثيل له، قامت به آلاف من قوات النخبة التابعة لحماس، التي اقتحمت ما يزيد على عشرين نقطة على طول الحدود مع غلاف غزة. وفي خلال الساعات الأولى منه، قتل 1200 إسرائيلي، وأخذ المئات كرهائن.

الحرب بطبيعتها مدمرة للحياة والأعمال والمجتمع. وكلما طالت الحرب، كانت الضربة الاقتصادية أكبر، خصوصا لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلية الذي أصابه تعطيل هائل.
من آثار هذا الاقتحام، أنه أصبح مطروحا على الطاولة السؤال الوجودي بالنسبة لإسرائيل؛ إذ سرعان ما دخلت حربا على جبهات متعددة، بما في ذلك حدودها الشمالية مع حزب الله، وحتى أبعد من ذلك. لذا، لن تثق إسرائيل الآن بقدرتها على كشف التهديدات واستباقها، لكنها سوف تسعى لمنعها، وسيكون القادة السياسيون والعسكريون في إسرائيل أكثر استعدادا واستباقية عما كانوا عليه في الماضي، لتقليل احتمالية حدوث يوم مماثل ليوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أو ما هو أسوأ منه. سوف تسلح إسرائيل نفسها بشكل أكثر كثافة، وستشن حروبا لمواجهة عدوان لم تواجهه من قبل. أما بالنسبة للمواقف الإقليمية والدولية:

ـ اتسمت ردود فعل الحكومات العربية بالصمت. فالشركاء العرب لإسرائيل، بما فيهم مصر والأردن والسعودية والإمارات، والذين يشتركون في مخاوفهم وكراهيتهم لحماس التي هي نتاج الإخوان المسلمين، لم يدعموا علنا تصرفات إسرائيل، رغم أنها تواجه حربا عالمية من المنظمات الإسلامية.

ـ أما إيران، فقد نجحت فيها استراتيجية إيران في بناء حلقة من الأعداء حول إسرائيل. وهي لا تهدف إلى تدمير إسرائيل بضربة واحدة؛ إنما عبر سلسلة من الحروب، في الوقت الذي تحمي فيه نفسها بالرادع النووي الذي تسعى إلى امتلاكه. ومع ذلك، فهناك خطر كبير من أن يتسع نطاق الحرب، فهجمات الحوثيين في البحر الأحمر تدعو إلى رد بقيادة الولايات المتحدة، سواء من خلال التصعيد المتبادل. وقد يأتي اليوم الذي تهاجم فيه الولايات المتحدة وحدها الحوثيين ومستشاريهم الإيرانيين واللوجستيات التابعة لهما أيضا. وقد يشارك في الهجوم بعض الجيران الذين يستشعرون الخطر الإيراني.      

ـ الأطراف الدولية:

إن اصطفاف الدول ومواقفها في هذه الحرب، يعد أمرا كاشفا للصراعات على المسرح العالمي. فروسيا والصين هما الأكثر دعما لحماس وإيران؛ ولكن بشكل أقل صراحة. أما الولايات المتحدة وحلفاؤها، فيدعمون إسرائيل. لذا، فهذه الحرب لا يمكن فصلها عن غيرها من الصراعات التي تكون الولايات المتحدة طرفا فيها أو مؤيدة لأحد أطرافها. كما قد تكون محفزة لصراعات أخرى في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا في بلاد الشام والخليج العربي وما وراءهما.

هل يمكن لإسرائيل أن تتعلم من حروب أمريكا في العراق وأفغانستان؟

في حرب غزة، تواجه إسرائيل تحديات أشد صعوبة واختلافا عن تلك التي شهدتها أمريكا في حربي العراق وأفغانستان. فقد سبب هجوم حماس صدمة شديدة لإسرائيل، وكانت الخسائر المترتبة عليه هي الأكبر في تاريخها منذ قيامها.

سعت الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان إلى القضاء على التنظيمات المقاتلة ضدها، واتباع نهج سياسي تمثل في إيجاد شركاء محليين يقيمون حكومات مؤيدة لها. لكن إسرائيل لا تميل إلى اتباع الحل السلمي، وترى أن كراهية الفلسطينيين أمر لا مفر منه. وقد أثبت كل من الانتفاضة الثانية والانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 للعدييد من الإسرائيليين، أن تنازلات الفلسطينيين ستكون أمرا ممكنا تحت وطأة العنف الفلسطيني، على الرغم من أن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك بكثير. لذا رأت إسرائيل في هجوم حماس فرصة ملائمة لإرساء نهج يمنع الفلسطينيين من تحقيق مكاسب سياسية عبر الحرب.

وعلى عكس ما وجدته أمريكا في أفغانستان والعراق من شركاء محليين، فإن إسرائيل لا تجد مثل هؤلاء الشركاء، وقليل من الفلسطينيين إن وجدوا من يرغب في العمل معها. ويرجع ذلك إلى السياسات الإسرائيلية التي قوضت السلطة الفلسطينية، وما هو من موجود على الأرض اليوم من دمار شامل وقتل المدنيين، وانتشار مكثف لوسائل التواصل الاجتماعي. وأيضا الطبيعة الخاصة لحماس.

حل الدولتين

مع وصول الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى أعلى مستوياته منذ عقود، عاد الحديث مرة أخرى إلى حل الدولتين، بعد أن بدا بعيد المنال قبل حرب 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي أقنعت الكثيرين بضرورة إحياء الفكرة. لقد ظن الإسرائيليون قبل الحرب أنه يمكنهم الحصول على الطلاق من الفلسطينيين، لكن أفعالهم على مدار 75 عاما، جعلت ذلك أمرا يكاد يكون مستحيلا. فهناك تشابك شديد واعتماد شبه مطلق للأراضي الفلسطينية على إسرائيل، وهو تشابك صنعته السياسات الإسرائيلية طوال العقود الماضية: الاستيطان وعنف المستوطنين، المياه، الاقتصاد، الأمن، حتى شبكات الهاتف والإنترنت. بحيث إن الدولة الفلسطينية إن أقيمت ستكون أقل من دولة وستفاليا، أي شبه دولة وليس دولة فعلية. دولة تعتمد بالكامل على إسرائيل وسوق أسيرة لديها، وسيطرة إسرائيلية كاملة على ما يحدث داخلها، واعتماد كامل على البنية التحتية الإسرائيلية.

إن إمكانية حدوث تعايش بين الطرفين في نموذج الدولتين هي في أدنى مستوياتها، ولن تكون مقبولة لدى الجانبين، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مصمم على الاحتفاظ بالمستوطنات في الضفة الغربية، التي يعدها جزءا لا يتجزأ من إسرائيل، ويتحدث بسخرية عن احتمال ظهور فتحستان أو حماسستان على حدوها، ويتعهد بمنع ذلك. وهناك قدر من الإجماع الإسرائيلي على ذلك.

وفي الوقت نفسه، ينظر الفلسطينيون إلى اتفاق أوسلو على أنه خدعة، إذ تركهم تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة والاقتحامات المتكررة، سواء لقوى الأمن أو المستوطنين. وقد عزز من يأسهم الحصار الإسرائيلي لغزة مدة 16 سنة، وما فعلته إسرائيل في القطاع منذ بداية الحرب وحتى الآن.

الحروب الأبدية

يشهد العالم اليوم نوعا جديدا من الصراعات، مثل الدائر الآن في الشرق الأوسط. ورغم أنها صراعات محلية؛ إلا أنها تغلي بأحداث متفرقة ومعقدة وغير متوقعة ومدمرة. ومع غروب شمس الغزوات الأمريكية الفاشلة في الشرق الأوسط، فإن هذا النوع الجديد من الحروب، كحرب 7 تشرين الأول/أكتوبر، سيؤثر على المصالح الأمريكية في العقدين المقبلين. وسوف تتزايد أمثال هذه الحروب وتأثيراتها طولا وعرضا وكثافة حول العالم. فقد شهد عاما 2022 و2023 أكبر عدد من الصراعات العنيفة وقتلى الحروب منذ الحرب العالمية الثانية. 

كانت السياسة الخارجية الأمريكية تسعى إلى تقليص وجودها في المناطق الطرفية مثل الشرق الأوسط، حيث ركزت على تشجيع الصفقات بين الرجال الأقوياء، والمساعدات الإنسانية الهزيلة، وعمدت إلى تهميش الفلسطينيين لصالح اتفاقيات إبراهيم؛ لكن حرب غزة بينت فشل هذه الاستراتيجية.

لقد استفادت روسيا والصين من هذا الفشل. كما أن دول الجنوب العالمي قد ضاءلت دعمها لأوكرانيا، لما رأته في حرب غزة من ازدواجية المعايير، ووقوف الولايات المتحدة مؤيدة على طول الخط لإسرائيل ضد 153 دولة في الأمم المتحدة.

في حرب غزة، تواجه إسرائيل تحديات أشد صعوبة واختلافا عن تلك التي شهدتها أمريكا في حربي العراق وأفغانستان. فقد سبب هجوم حماس صدمة شديدة لإسرائيل، وكانت الخسائر المترتبة عليه، هي الأكبر في تاريخها منذ قيامها.
ما لم تلتزم الولايات المتحدة بدبلوماسية صارمة لحل الصراعات وإدارة الأزمات بشكل سليم، خاصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث لديها في المنطقة نفوذ من نوع فريد، فإن هذه الصراعات سوف تتصاعد إلى الأبد. ويجب أن تدرك الولايات المتحدة، أن الأعمال العدائية ضدها في أوروبا وأفريقيا وآسيا، كلها أجزاء من صراع عالمي واحد.

كيف ستخرج التكنولوجيا الإسرائيلية من الصراع في غزة؟

الحرب بطبيعتها مدمرة للحياة والأعمال والمجتمع. وكلما طالت الحرب، كانت الضربة الاقتصادية أكبر، خصوصا لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلية الذي أصابه تعطيل هائل. هذا القطاع كان بمنزلة محرك اقتصادي لإسرائيل، ومجال ابتكار للعالم أجمع. ومن المرجح أن تؤدي التعبئة الكبيرة للاحتياط والسياق الاقتصادي الأضعف إلى تأخير التكنولوجيا الإسرائيلية بشكل كبير، إن لم يكن تعطيلها. فقد حشدت إسرائيل 360 ألف جندي، أي حوالي 4% من سكان البلاد، وهي ثاني أكبر تعبئة في تاريخها. كما نزح قرابة 764 ألف إسرائيلي، 18% من القوى العاملة. كما أن حوالي 12% من القوى العاملة الإسرائيلية مازلت عاطلة عن العمل. وكان أكثر المتأثرين بذلك هو قطاع التكنولوجيا، إذ تمت تعبئة  من 15 إلى 20% من العاملين فيه، وهو ما يمثل انقطاعا طويلا في مجال الابتكار وتطوير المشاريع وخدمة العملاء.

سيكون لتعطيل قطاع التكنولوجيا تأثير كبير على الاقتصاد الإسرائيلي، إذ يمثل هذا القطاع 18 ـ 20 من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 9.3% في الولايات المتحدة و 6% في الاتحاد الأوروبي. وتشكل المنتجات عالية التقنية حوالي 50% من صادرات إسرائيل. كما يعد الاستثمار الأجنبي المباشر في هذا القطاع أمرا بالغ الأهمية، وسيتأثر بهذه الحرب. حتى أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، وجابه ما يقرب من 40% من شركات التكنولوجيا اضطرابا تمويليا، مع إلغاء العديد من اتفاقيات الاستثمار أو تعليقها. حتى لو كانت الفجوة في العمالة مؤقتة وتم تسريح جنود الاحتياط في غضون أسابيع، فقد تكون بعض الاضطربات في قطاع التكنولوجيا غير قابلة للإصلاح. ويشير شهر كانون الأول/ ديسمبر، إلى أن الشركات الناشئة الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا، لم تجمع سوى 1.3 مليار دولار بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر بانخفاض معدله 46% عن الفترة نفسها من العام السابق، وهو أدنى مستوى لها منذ ست سنوات. وقد يكون هذا الأثر الاقتصادي ضعف ما خلفته الحروب السابقة، ولن يتحقق انتعاش سريع هذه المرة، عكس الحروب السابقة.

التعليق

من هذا العرض السابق، نخرج بعدة نتائج مهمة تتعلق بطوفان الأقصى وآثاره السياسية والاستراتيجية البعيدة المدى، وتأثيراته المتعددة على الجغرافيا السياسية للعالم، فلم تعد إسرائيل القوة التي لا تقهر، وأصبح سلاح المقاومة قادرا على إحداث تغييرات مهمة في مسار الصراع ومستقبله. ولم يعد العالم كذلك أحادي القطب، بل هناك قوى إقليمية ودولية ستتبوأ مكانة مهمة على الصعيد العالمي. وهذه كلها تدفعنا إلى أن نعيد قراءة المستقبل والتعامل مع مستجداته، بما يحقق مصلحة الأمة والمنطقة.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع