كتاب عربي 21

المستعمرة الاستيطانية الصهيونية دولة منبوذة

"أفضت حرب الإبادة على قِطاع غزّة إلى وضع المستعمرة الصهيونية في حالة من العزلة والنبذ على كافة المستويات"- جيتي
فككت عملية "طوفان الأقصى" الأساطير المؤسسة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، وكشفت الحجاب عن طبيعة المشروع الصهيوني كظاهرة استعمارية تقوم على الإبادة والمحو والتطهير العرقي، تتشابه مع المشاريع الاستعمارية الأوروبية التاريخية منذ أواخر القرن التاسع عشر التي شهدتها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. ولا يختلف سلوك المستعمرة الصهيونية الإبادي في غزة عن ممارسات المستعمرات الاستيطانية التاريخية، فالعنف الوحشي وارتكاب جريمة الإبادة الجماعية هو سمة ملازمة للاستعمار الاستيطاني في مراحله الأخيرة عندما يشعر الكيان بتهديد وجودي يؤذن بقرب نهايته، حيث يعمد إلى استخدام الأساليب القتالية الاستعراضية الأكثر وحشية وهمجية لاستعادة صورة الردع المهدرة؛ للقضاء على المقاومة وهزيمة ثورة الشعب الأصلي وكسر إرادته وإخضاعه.

إن حرب الإبادة الوحشية التي تنفذها المستعمرة الصهيونية في غزة على مدى أكثر من سبعة أشهر، لم تحقق أيا من أهدافها المعلنة والخفية، بل وضعت الكيان الإسرائيلي في عزلة دولية وأدخلته في أزمة إستراتيجيّة عميقة وحولت المستعمرة إلى دولة منبوذة. إذ لم تحقِّق أساليب الإبادة الوحشية أيّا من أهداف الحرب المعلَنة بالقضاء على المقاومة، ولم تحرِّر الأسرى والمخطوفين، ولم تحسم الحرب، ولم تتمكّن من فرض شروطها لوقف إطلاق النار، على الرغم من حجم الدمار والقتل الهائل. فقد أسفرت حرب الإبادة المستمرة تحت أنظار العالم عن استشهاد نحو أربعين ألف (40,000) فلسطينيّ معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة أكثر من ثمانين ألفا (80,000) في قِطاع غزّة، وتدمير قرابة 70 في المئة من المباني السكنيّة والـمَرافق العامّة والمستشفيات والمساجد والمدارس والبنى التحتيّة هناك.
بات واضحا أن الشعب الفلسطيني هو ضحية الإرهاب الاستعماري الصهيوني وليس هو مرتكب الإرهاب، ولم يعد يُنظَر إلى إسرائيل على أنها ضحية تدافع عن نفسها في محيط من البربرية والوحشية. فقد أصبحت المستعمرة تعرّف كدولة استعمارية منبوذة مارقة تمارس جريمة الإبادة وتنتهك القانون الدولي، وترتكب جرائم حرب

أفضت حرب الإبادة على قِطاع غزّة إلى وضع المستعمرة الصهيونية في حالة من العزلة والنبذ على كافة المستويات، وأثرت على مكانة إسرائيل الدوليّة، ولا سيّما الجوانب غير الرسميّة، أي تلك التي لا تتعلّق بمواقف ومؤسَّسات الدول، ومن بينها بداية نشوء مقاطَعة دوليّة جِدّيّة، غير رسميّة، للأكاديميا الإسرائيليّة، ومقاطَعة عالميّة لأعمال فنّيّة وثقافيّة، ومنها تصاعُد لحركات الاحتجاج الطلّابيّة في الجامعات الأمريكيّة.

وقد بدأت ملاحقة في المحاكم الدولية، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية في 24 مايو/ أيار 2024، في خطوة رفضها المسؤولون الإسرائيليون، أمرا لإسرائيل بوقف "فوري" لهجومها العسكري على مدينة رفح الواقعة جنوبي مدينة غزة، قائلة إن الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية "كارثي". ويُعتبر قرار "العدل الدولية" التحرك الثالث هذا العام ضد مصالح إسرائيل، التي تجد نفسها لأول مرة أمام عزلة دولية غير مسبوقة، فقد واجهت في الفترة الأخيرة طلب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم أحمد خان، لإصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزيره يوآف غالانت، فضلا عن اعتراف ثلاث دول أوروبية بدولة فلسطين.

لم تفلح مساعي المستعمرة الصهيونية باستكمال حرب الإبادة في غزة التي بدأتها منذ تأسيسها، فقد لقّنت غزة المستعمرين الإسرائيليين دروسا عدّة فيما يتعلّق بالتعامل مع الشعب الفلسطيني، فقد بات واضحا أن الشعب الفلسطيني هو ضحية الإرهاب الاستعماري الصهيوني وليس هو مرتكب الإرهاب، ولم يعد يُنظَر إلى إسرائيل على أنها ضحية تدافع عن نفسها في محيط من البربرية والوحشية. فقد أصبحت المستعمرة تعرّف كدولة استعمارية منبوذة مارقة تمارس جريمة الإبادة وتنتهك القانون الدولي، وترتكب جرائم حرب.

فلم تكن عملية "طوفان الأقصى" سوى استجابة لما أفضت إليه محاولات تصفية القضية الفلسطينية بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات في المنطقة، في لحظة تاريخية تماهى فيها الخطاب الاستبدادي العربي عن العنف الاستعماري الإسرائيلي في قطاع غزة الذي حوّلته إلى معتقل وسجن كبير؛ مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الأمريكية والغربية، التي تجاهلت الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الاستيطاني لإسرائيل والذي يستند إلى الإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، وتناست طبيعة المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار الصهيوني وكحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئا ممكنا، بل واجبا يقوم على حق الدفاع عن النفس.

فقد أصبح الوهم القائل بأن الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا، وعززت مسارات تطبيع الكيان الاستعماري مع الدول الاستبدادية العربية برعاية إمبريالية أمريكية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية. فقد تماهت الخطابات الإمبريالية والصهيونية والاستبدادية مع خرافة أن الشعب الفلسطيني هو مرتكب الإرهاب، وأن الإسرائيليين المستعمرين هم ضحايا الإرهاب دوما.
العزلة العالمية التي يعيشها الكيان الاستعماري الصهيوني منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تؤشر على قرب تفككك المستعمرة، فقد خسرت الصهيونية السرديات المؤسسة لوجودها، وشكلت غزة ذوات أخلاقية جديدة لدى الأجيال الشابة في مختلف أنحاء العالم، فأيقظت غزة الضمير الإنساني على جوهر النظام الاستعماري الذي يقوم على المحو والإبادة والتطهير العرقي

إن العزلة العالمية التي يعيشها الكيان الاستعماري الصهيوني منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تؤشر على قرب تفككك المستعمرة، فقد خسرت الصهيونية السرديات المؤسسة لوجودها، وشكلت غزة ذوات أخلاقية جديدة لدى الأجيال الشابة في مختلف أنحاء العالم، فأيقظت غزة الضمير الإنساني على جوهر النظام الاستعماري الذي يقوم على المحو والإبادة والتطهير العرقي، رغم أن الفكرة التي تشير إلى أن الصهيونية هي استعمار استيطاني ليست بالفكرة الجديدة.

ففي مرحلة مبكرة سادت لدى الفلسطينيين النظرة إلى الصهيونية كاستعمار استيطاني، وهو ما أكدته نخبة من المؤرخين الإسرائيليين الجدد، بالاستناد إلى الأبحاث المتكئة على الأرشيفات الإسرائيلية، حيث يكشف هذا التاريخ النقدي بوضوح كيف طُرد الفلسطينيون فعلا في العام 1948، وأن الجيوش العربية لم تطالبهم بالمغادرة على نحو ما تُشيع الدعاية الإسرائيلية. لم تهدف الجيوش العربية قَطّ إلى "تحرير" فلسطين"، ولم تتوافر إسرائيل على أي نية للسلام وتسوية "مشكلة اللاجئين"، فقد كانت إسرائيل دائما الجانب الأقوى في الصراع والطرف المسؤول عن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم واستعادة حقوقهم الوطنية. وقد لخَّص إدوارد سعيد المساهمة الجماعية لهذا الاتجاه النقدي بالقول: "من المؤكّد أن الأهمية السياسية الكبرى للمؤرّخين الإسرائيليين الجدد اليوم تكمن في أنهم أكدوا ما ردّدته أجيال من الفلسطينيين، سواء المؤرّخين أو غيرهم، عن ماذا حدث لنا كشعب على يد إسرائيل".

أعادت غزة النظر إلى طبيعة "إسرائيل" كآخر كيان استعماري استيطاني على وجه الأرض، يقوم على المحو والإبادة، فالصهاينة اليوم يقضون على السكّان الأصليين في غزّة أمام أعين العالم أجمع دون خجل، وباستخدام ذات الذرائع والحجج البالية وسرديات التفوق وخطابات الحضارة والبربرية. وحسب إيلان بابيه، قد تكون الفكرة التي مفادها أنّ بإمكانك القضاء على شعب الأرض التي تريدها بالقوة، مفهومة لا مبرّرة -على خلفية القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر- لأنها ترافقت مع تأييد كامل للإمبريالية والاستعمار. وقد تغذّت هذه الفكرة على النزع الشائع لإنسانية الشعوب الأخرى غير الغربية وغير الأوروبية، وحين تنزع إنسانية البشر، يسهل عليك القضاء عليهم.

المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعه إلى عدم الاكتراث بحالة العزلة والنبذ، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه وحلّت نهايته، وهي نهاية عنيفة كسائر المشاريع الاستعمارية الاستيطانية التاريخية، وهو ما يفسر حالة العنف والوحشية التي تمارسها المستعمرة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ولكن السلوك الإبادي الاستعماري لم ينجح في تحقيق أي هدف استراتيجي
وما كان فريدا للغاية في الصهيونية بوصفها حركة استعمارية استيطانية هو أنها ظهرت على الساحة الدولية في وقت بدأت فيه الشعوب في جميع أنحاء العالم تعيد التفكير في شأن الحقّ في القضاء على السكّان الأصليين، وإبادة المحلّيين، ولذلك يمكن أن نفهم الجهد والطاقة اللذين وظّفهما الصهاينة ومن ثم دولة إسرائيل في محاولة التستّر على الهدف الحقيقي لحركة استعمارية استيطانية مثل الصهيونية، وهو القضاء على السكّان الأصليين.

خلاصة القول أن غزة فضحت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية التي تقوم على المحو والإبادة والتطهير العرقي، وقد شكلت غزة ذوات أخلاقية جديدة ترفض السردية الصهيونية وتناهض الاستعمار الاستيطاني، وأصبحت القضية الفلسطينية مسألة عدالة سياسية وقضية أخلاقية. فمقاومة السكّان الأصليين الفلسطينيين كانت منذ البداية ضدّ الاستعمار الاستيطاني وحرب الإبادة والتطهير العرفي، ومن أجل التحرير، وما قامت به حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يقع قي سياق من عمليات المقاومة الفلسطينية التي بدأت منذ العام 1948.

ويبدو أن المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعه إلى عدم الاكتراث بحالة العزلة والنبذ، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه وحلّت نهايته، وهي نهاية عنيفة كسائر المشاريع الاستعمارية الاستيطانية التاريخية، وهو ما يفسر حالة العنف والوحشية التي تمارسها المستعمرة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ولكن السلوك الإبادي الاستعماري لم ينجح في تحقيق أي هدف استراتيجي وباء بالفشل، وهو يخوض حرب استنزاف دون أفق، فالحرب على غزّة جعلت المستعمرة الصهيونية المسماة "إسرائيل" دولة منبوذة، وهو وصف يؤذن بعزلتها وقرب تفكيكها.

x.com/hasanabuhanya