نعم أتذكر
سميح القاسم .. هنا لا يموت الشاعر، وحده النسيان قاتله .. أتذكر سميح فأكون مسيحه الذي يحييه بإذن الله، أتذكره حين تقسو الأيام، فيعلو شأن الفاجر، ويكاد الحصيف يجن، حين يقف الخائن في القفص يدعي البطولات والأمجاد وينال البراءة من قاض لا قلب له، ولا ضمير، فيما يسجن تحت القصف الإعلامي زهرة شبابنا :
أنت تدرك أنهم أخذوك ليلا
كي يعودوا وحدهم ملء النهار
أتقول لي عفوا
كلامك رائع
لكنهم ماضون في القصف الإذاعي
انتبه ..!
لك أنت صاروخ حقيقي
وللأعداء صاروخ الحوار
***
هنالك صيغة غير التي تروى
هنالك صورة من ساحة الأحداث
هم قتلوا المصور
نحن نعرفهم
ونعرف لعبة الإعلام
ندرك ما يريد العالم الحر
المكبل بالأساطير الحقيرة
نفهم الأعداء من ألف إلى ياء
ونعلم أنهم قتلوا المصور ضاحكين
أصخ قليلا قلبك المشحوذ بالطلقات
ضحكتهم ترفرف
نورسا فوق الخليج
وناقلات النفط تضحك
أتذكر سميح القاسم حين نشارك في قصف أهلنا في غزة، حين نصف العدو بما نصف به صاحب الأرض والدم، حين نسوي بين الضحية والجلاد، ونعتبر أن قتل أهلنا جزء من إيقاع الحياة العصرية، علينا أن نأخذه ببساطة، وحين يخرج من بين ظهرانينا من يخبرنا أن إسرائيل ليست العدو، أتذكر:
على ركام الحاجز المقصوف جوا
تلك واحدة تطل برأسها من جمجمة
خلل يعشش في الأماني
خلل يشرش في الأغاني
خلل
دروب مبهمة
خلل
قلوب معتمة
خلل دخان في الدخان
لن يسمع القناص أغنيتي
ولن يرضى بغير فمي ملاذا للرصاصة
أتذكر سميح القاسم حين يخونني من قال أنه مثل أبي، حين نسخر في مرارة من طموح آبائنا القتلة بينما يتحدث هو إلى موت أبيه .. مشاعرنا جميعا يترجمها للفلسطيني الموت.. وحده الموت يسكن هذه البلاد ..
"ساعتك الأوميجا" استسلمت للزمان
استوت راحتاك على جانبيك
تعبت
ونمت
وخفت عليك
توقف قلبك
قلبك في جسدي موضعه
هل كان للشاعر
الفلسطيني مكان في قلوب جيرانه كي يعيش ولا يموت، هل كان يملك أن يؤجل هذا القرار بالموت؟، أن يدفع فاتورة بقائه على قيد الحياة؟، وهل نحن نستحق فعلا أن يكون لنا في هذه الأرض موسيقى وقافية وشعب ...
حاولت أن آتيك ...
آتي؟
أجبني كيف آتي؟
باب الحنين مشرع
لكن باب القاهرة
سدته في وجه الحنين
نجوم داوود
في العام 1986 يصدر سميح القاسم ديوانه: "شخص غير مرغوب فيه"، الكثيرون من أبناء جيلي عرفوه من هذا الديوان، وكأنه يعتق مراراتنا ثم يقذف بها في حلوقنا دفعة واحدة، كلما ادلهمت الخطوب وجدته يحول بيني وبين التناسي:
ولد يحاصر أمه
أم تغير على الولد
بلد يهاجر في بلد
وعلي أن أمضي
وأن تمضي
وأن نمضي
ونوغل في الأبد
كان سميح يرى أن مساندة الشعوب العربية لفلسطين توقفت عند الكلام، المواساة، الشجب والإدانة، وأن هذا الهراء لن يحيي ميتا، ولن ينقذ أطفالا، ولن يأوي نساء وعجائز، يقول:
يومان
أسبوعان
شهر طافح
عامان
قرن
هل تعبت؟
تعال يا ولدي
أنا مهدت صدري
كي تريح عليه جثتك الفتية
وتعال يا ولدي
لألقي رأسي المقطوع
بين يديك
قد أرتاح من موتي البطيء
على رصيف الأبجدية
الوردة الحمراء قتلتني
كما قتلتك أنت البندقية ..
سميح كان معي يوم سجنوا الرفاق بدعوى قانون التظاهر، كان ينتظر عمر حاذق في زنزانته، كان يواسيني في سجن ماهينور، كان معنا في رابعة، كان معنا يوم أن أكلنا جميعا ونحن نتصور أن هذه هي طبائع الأمور، كان نشيدنا التآمري على أغلال الوطنية المدعاة ..
انهض
ولا تنهض
فأشباه الرجال
كما عهدت
على الرجال .. أباطرة
وسيوف أسياد الحمى
حول الخلافة
ساهرة
وجيوشهم جرارة
لا لاستعادة موقع
أو مسجد
أو زهرة برية
لكن لسحق مظاهرة
ولقتل طفل
ما درى
أن الحنين إلى أبيه
مؤامرة
ماذا أقول الآن لسميح، يصارع السرطان في أيامه الأخيرة، فيما تقاوم غزة جيش الإحتلال، ورجاله في القاهرة، حتى حروف الأبجدية لم نقدمها، حتى الوردة التي لم تعجبه بخلنا بها، وليتنا سكتنا، بل منحنا الحرف العربي إلى قاتل سميح كي يُرتق به لغته العبرية، فتزداد قدرة على النقل عنا، ويزداد بها رسوخا، حماس إرهابية، وعصابات الصهيونية أصدقاءنا وضحاياها، وضعنا على عروة الجندي الإسرائيلي وردتنا الحمراء يا سميح، وقلنا: نرفع لكم القبعة فاقتلونا..
حين كتب سميح ديوانه "شخص غير مرغوب فيه" كانت الجملة ترجمة لاصطلاح دولي موجود في كل مطارات العالم هو: "برسونا نن جراتا"، كان يستخدم ضد الأشخاص غير المرغوب فيهم في دخول أي بلد، وكان الفلسطينيون على رأس هؤلاء، كان سميح وقتها يرثى لحال الفلسطيني في بلاد الغرب، ولم يدر بخلده أنه سوف يجيء اليوم الذي يصبح الفلسطيني فيه غير مرغوب فيه في مصر، "برسونا نن جراتا".
ماذا نحمل لسميح إذن سوى الموت؟
ماذا نحمل لأنفسنا سوى موت سميح؟
لابد أن تمضي
ظلامك حالك؟
لا بأس
مد يديك في حذر
حدق بالأصابع
ولتكن أذناك
في هذا الظلام عصاك
لا
ما أنت بالأعمى
يا سميح .. "أنت تدري كم نحبك"/ حاولت أن آتيك/ لكني فقير/ وتذاكر
الشعراء غالية/ وأرض الموت عالية/ على العمر القصير
يموت سميح القاسم تاركا وراءه غزة تقاوم أكثر صلابة ورسوخا، القاهرة في ظلمات الجب، تنتظر الرؤيا، دمشق على طريق العائدين إلى الحقيقة، بغداد بين سؤال دجلة وإجابة شجرة الزقوم، يموت تاركا وراءه قصيدة لم تكتمل، يلحق بشطر البرتقالة الأولى، درويش، ويذهب عنا ولم يزل، ربما أكثر من ذي قبل، "شخص غير مرغوب فيه".
يموت سميح القاسم ..
"ويبقى غلام من الشرق دون جواز مرور ودون هوية .. وتبقى القضية".
--
* شخص غير مرغوب فيه: من أهم دواوين الشاعر سميح القاسم