يعرف كل فلسطيني غير مكابر، أو غالبية من ينطبق عليهم هذا التوصيف على الأقل، أن مجمل الوضع الفلسطيني قد تقهقر وتراجع مئة عام إلى الوراء، جرّاء أخطاء أساسية جوهرية، بدأ ارتكابها مع مطلع القرن الحالي، وراحت تتراكم وتتصاعد على مدى غالبية سنوات العقد الماضي. كذلك لم تفلح كل المحاولات في وقف التدهور والانحدار حتى يومنا هذا؛ لأنها كانت جميعا محاولات تفتقر إلى الشجاعة والحكمة والجدّية، في مواجهة الذات أولا، ثم الاعتراف بالأخطاء، وبدء البناء على أسس تتعظ من دروس تلك التجربة.
بدأ مسلسل الأخطاء الفلسطينية، في الواقع، مع بدء تطبيق اتفاقات أوسلو. إلا أن أجواء الفرح الفلسطيني العارم ببدء بشائر العودة إلى أرض الوطن، حتى ولو إلى جزء محدود من تلك الأرض، وبدء رفع العلم الفلسطيني فوق كل شبر ينزاح عنه نير الاحتلال، وتوسع «غزة أريحا أولا» لتشمل مدنا وقرى ومخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبدء تشكيل أجهزة وهيئات ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، وابرزها وأكثرها دلالة المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي شارك في انتخابه الفلسطينيون في القدس العربية، وكذلك تشكيل الحكومة الفلسطينية، شكّل كل هذا ساترا وستائر جميلة، غطت على تلك الأخطاء التي كان يمكن تجاوزها.
هذا السكوت على أخطاء صغيرة، ولكنها جوهرية وبالغة التأثير – كونها جاءت في مرحلة وضع اللبنات الأولى لتأسيس دولة مستقلة عصرية- أدّى إلى التمادي في ارتكاب الأخطاء، التي أخطرها الاستجابة إلى استفزاز زعيم المعارضة الإسرائيلية في حينه، أريئيل شارون، الذي نجح في استدراج الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مربّع العنف والسلاح، وتبلورت هنا «الانتفاضة الثانية» التي انزلقت في اتجاه استهداف المدنيين، وشوهت صورة النضال الفلسطيني، وخسرنا بالتدريج ما كان للحركة الوطنية الفلسطينية من تأييد ومناصرة في الساحة الإسرائيلية، ثم في الساحة الدولية، وتغيرت صورة الفلسطيني المُرحّب به في كل لقاء شعبي أو رسمي في العالم، وفوق كل منبر محلي أو دولي، إلى صورة إرهابي يقتل المدنيين في الحافلات والمقاهي والفنادق. وكان طبيعيا في هذه الأجواء، أن تظهر كل العيوب، وأن يندحر العقل والتفكير العملي السليم، وأن يخلي مكانه للتخلف والتعصب بكل ألوانه وأنواعه، وأن يصل كل الوضع الفلسطيني إلى ما نحن فيه من ضعف وتحلل، ومن تشرذم وانقسامات.
هكذا، وفي أربع سنوات عجاف، هي عمر الانتفاضة الثانية، انكفأ الوضع الفلسطيني مئة عام إلى الوراء.
كان هذا التطور من حسن حظ إسرائيل، وسوء حظ فلسطين. لكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد الذي نعاني منه. فمن حسن حظ الفلسطينيين، وسوء حظ الإسرائيليين، أن وصل، (أو عاد) إلى سدّة الحكم في إسرائيل، بنيامين نتنياهو، الذي شكل حكومته الثانية، لتكون حكومة يمينية مشلولة، ثم حكومته الثالثة لتكون حكومة فاقعة اليمينية والعنصرية، ثم، أخيرا، حكومته الرابعة اليمينية العنصرية الفاشية التي لم يعد يقبل بمنطقها وسياساتها حتى أكثر الحلفاء قربا لإسرائيل.
نزعت حكومات نتنياهو رداء «الضحية» عن إسرائيل. وبدأت تظهر على حقيقتها بشكل جلي للعالم، حكومة تمارس العنصرية والشوفينية والاحتلال، وتتحدث بلغة عفا عليها الزمن، وتسن قوانين فاقعة العنصرية. وتسبب كل ذلك في خسارتها للغالبية العظمى من شعوب أوروبا، وغالبية حكوماتها، ونصف التأييد الأعمى الذي كانت تتمتع به في الشارع الأمريكي، كما في الإدارة الأمريكية.
هكذا وفي بضع سنوات إسرائيلية عجاف، هي عمر حكومات نتنياهو، انكفأ الوضع الإسرائيلي، ووضع المجتمع اليهودي في إسرائيل، مئة عام إلى الوراء.
في هذه الأيام التي تنتظر فيها إسرائيل، بتفاؤل واضح، وصول الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، لا أعتقد بوجود مبرر كاف لتشاؤم فلسطيني مبالغ فيه. صحيح أن كل الدلائل تشير إلى أن ترامب لن يكون رئيسا جيدا من زاوية نظر المصالح الفلسطينية، لكن قدرة إسرائيل، المعزولة عالميا، على إدخال أمريكا ترامب إلى دائرة العزلة التي تتربع فيها، تفوق قدرة ترامب على فك العزلة عن إسرائيل، وفرض مصالحها والقبول بسياستها العنصرية على العالم.
تلافي المخاطر، وكذلك الدفع باتجاه تحقيق المصالح الوطنية، يستدعي مبادرات فلسطينية، وبذل جهود جدية وفورية على عدة محاور:
ـ إعادة تماسك العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، حركة فتح، التي لم يتمكن «مؤتمرها السابع»، الذي عُقِد قبل أسابيع، لا من حل معضلة تفسخها، ولا من تجاوزه.
ـ إعادة تماسك منظمة التحرير الفلسطينية، بكل مكوناتها أولا، ثم بضم القوى الناشئة، وتحديدا حركة حماس والجهاد الإسلامي، (رغم التباين في الأيديولوجيات والأولويات)، وكذلك ضم التيارات والشخصيات الفلسطينية المستقلة، التي لا فائدة ولا إمكانية ولا مصلحة في تجاوزها، تحت جناح م.ت. ف.، لتعود كما كانت منذ تولت قيادتها حركة فتح عام 1968 وحتى إلى ما قبل سنوات قليلة، الممثل الشرعي المتماسك والوحيد للشعب الفلسطيني.
ـ تكثيف الجهود في التواصل مع شرائح في المجتمع اليهودي الإسرائيلي مناصرة للحقوق الفلسطينية، والعمل على تنشيط دورها في كسب مناصرين جدد، والاستعانة لذلك بالفلسطينيين حاملي بطاقة الهوية الإسرائيلية، والمؤسسات التي تمثلهم.
ـ ترميم العلاقة الفلسطينية مع دول الطوق، بداية من مصر والأردن، ثم بقية الدول العربية، لتكون سندا وامتدادا وعمقا استراتيجيا للعمل الوطني الفلسطيني.
ـ العمل الجاد المتواصل لبناء تحالفات دولية تشكل روافع تدعم وتساند الشعب الفلسطيني في نضاله لاستعادة حقوقه التي تقرها الشرعية الدولية، دون أن يغيب عن ذهننا أن القضية الفلسطينية هي قضية دولية بامتياز، منذ بداية الهجرة اليهودية إلى ارض فلسطين وحتى يومنا، مرورا بالانتداب البريطاني، ووعد بلفور، وعشرات اللجان الدولية، وصولا إلى قرار التقسيم عام 1947، وكل ما تلاه من حروب ومواجهات ومئات القرارات الدولية.
ليست هذه أهدافا سهلة التحقق، ولكنها ضرورية. بل ولا يمكن إحراز أي تقدم أو مكاسب فلسطينية، ليس بدونها فقط، بل وبدون أي واحد منها على الإطلاق. هي حزمة مترابطة متكاملة، وأي فشل في أي عامل أو بند فيها، يعني استحالة التقدم ولو خطوة حقيقية واحدة على طريق إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، وفق الحق الطبيعي والمنطق والعدل والشرعية الدولية.
اعتماد معادلة استراتيجية فلسطينية تستند إلى مثل هذا التوجه، يمكن الشعب الفلسطيني من تفادي المخاطر الكامنة في وصول ترامب إلى البيت الأبيض، في وقت تحكم فيه إسرائيل حكومة نتنياهو اليمينية الأكثر عنصرية بين كل ما سبقها من حكومات، وفي وقت تعاني فيه المنطقة العربية بكاملها مآزق وصراعات دموية فيها، وعليها أيضا.
(القدس العربي)