هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تواجه الجزائر اليوم بعد نهاية حقبة بوتفليقة تحديات كبيرة جدا وتجد نفسها أمام امتحان صعب للغاية. فمرحلة ما بعد رحيل رمز السلطة أكثر تعقيدا وصعوبة من المرحلة السابقة. فالصراع داخل السلطة نفسها موجود بين المعسكر القريب من بوتفليقة، الذي حاول بشتى الوسائل كسب الوقت والمناورة لإيجاد سبيل وطريقة لإجهاض المسيرات ومطالب الشعب، وبين معسكر مضاد يخشى عدم الاستقرار ويسارع لطي الصفحة وفتح عهد جديد، يتسم بالشفافية والديمقراطية والاستجابة لمطالب الحراك.
من هنا كان احتضان الجيش للحراك، والضغط على دائرة بوتفليقة، وتوقيف رجال الأعمال، وشطب بيان يوم الاثنين إنهاء بوتفليقة لولايته باستحضار المادة 102 من الدستور وفرض استقالته الفورية. يرى مراقبون أن استقالة الرئيس بوتفليقة لن تحل الأزمة في الجزائر. فالحراك الشعبي يطالب بأكثر من ذلك، ولن يكتفي بإزاحة الرئيس عن المشهد، بل برحيل كل رموز النظام وتغييره بالكامل.. فأين يقف الجيش من هذه المطالب؟ وكيف تتم عملية التخلص من رؤوس النظام القديم؟
تعيش الجزائر منذ أكثر من سبعة أسابيع منعطفا تاريخيا كبيرا قد يفرز الجمهورية الثانية. فبعد ست جُمَعٍ متتالية من المسيرات والمظاهرات عبر كامل التراب الوطني، نجح الحراك الجزائري في إلغاء العهدة الخامسة ورفض تمديد حكم بوتفليقة، وإرغامه في آخر المطاف على الاستقالة. فلأول مرة منذ استقلال الجزائر استطاع الشعب أن يقول كلمته بطريقة حضارية وسلمية، وأن يختلف مع نظام سياسي بعيد كل البعد عن واقع ومشاكل ومطالب الغالبية العظمى من الشعب الجزائري. فالفضاء السياسي الجزائري تميز خلال العشرين سنة التي قاد فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة البلاد، بجملة من الأخطاء والتجاوزات والتناقضات التي أدت بالبلاد إلى مشاكل لا تعد ولا تحصى في مختلف المجالات. فرغم صحة الرئيس المتدهورة منذ سنة 2013 استمر بوتفليقة في الحكم والإصرار على إدارة شؤون البلاد بمساعدة مجموعة من المقربين منه ورجال المصالح والأحزاب السياسية.
صحيح أن الشارع الجزائري قدم درسا في العمل السياسي الديمقراطي المنظم والمنهجي، واستطاع أن يزيح الرئيس بوتفليقة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا بعد بوتفليقة، وما هي الآليات والسبل التي يجب اعتمادها لبناء نظام جديد يقوم على الشفافية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية؟ وما هو الوقت المطلوب لتحقيق ذلك؟ وهل يستطيع الحراك أن ينجز ذلك علىأرض الواقع؟ أم نحن بحاجة إلى شخصيات وقوى جديدة – أحزاب سياسية، معارضة، المجتمع المدني للنقاش والحوار ووضع خريطة طريق تقود البلاد إلى تأسيس الجمهورية الثانية؟
صحيح أن الحراك استطاع أن يلغي العهدة الخامسة واستطاع أن يفرض الاستقالة على الرئيس بوتفليقة واستطاع أن يوقف عهدته لسنة إضافية، لكن ما يحتاجه الشارع بعد هذا الإنجاز هو انتخاب رئيس جديد بطريقة شفافة حرة وديمقراطية، رئيس يحقق مطالب الشعب بعيدا عن الفساد والتلاعب بثروات البلاد. شعب الجزائر بعد هذه المسيرات المباركة غير مستعد ولا يقبل بأي حال من الأحوال، أن يشرف على هذه المرحلة الحساسة والمحورية في تاريخ الجزائر البرلمان الحالي بغرفتيه، كما أنه غير مستعد لأن يحكم البلاد بالإنابة عبد القادر بن صالح.
مما يعني أن المرحلة القادمة يجب أن تبدأ بتعيين رئيس جديد لمجلس الأمة يرضى عليه الشعب الجزائري، وكذلك تعيين حكومة انتقالية بدلا من تلك التي يرأسها نور الدين بدوي، وتعيين لجنة مستقلة عملا بالمادة 7 و8 من الدستور الجزائري التي تحدد مصدر السلطة في الشعب. ونلاحظ هنا من يرى أن العمل يجب أن يكون سياسيا وليس دستوريا، ما دام أن الدستور الحالي قد تم اختراقه وأنه لا يسهل عملية الانتقال إلى الجمهورية الثانية، وأن المشرع الجزائري لم يأخذ بعين الاعتبار الحالة الاستثنائية التي تمر بها الجزائر هذه الأيام. فالحراك يريد تغيير النظام وليس ذهاب بوتفليقة فقط. فالنظام لا نستطيع أن نغيره بالدستور الحالي وبالبرلمان الحالي ورجالاته. فرئيس مجلس الأمة الجزائري الذي يخوله الدستور رئاسة البلاد بالإنابة، مرفوض رفضا تاما من قبل الشعب الجزائري، فالأشخاص الموجودون حاليا في السلطة، لا يمكن الاعتماد عليهم في إحداث التغيير وهم رجالات نظام بوتفليقة، فمن المستحيل إحداث التغيير بالقديم وبما كان موجودا لعقود من الزمن.
إن استقالة بوتفليقة، لن تغير من الأمر شيئا، إذ إن الرجل من وجهة نظر الحراك، لا يحكم البلاد منذ فترة طويلة، وأن من يدير دفة الأمور هم مجموعة من المحيطين به، كما أن الرجل القادم وفقا للدستور الجزائري الذي يفترض أن يحل محل بوتفليقة، هو رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، الذي لا يحظى بإجماع شعبي من قبل الجزائريين، الذين يعتبرونه أحد رجالات بوتفليقة وأنه عنصر من النظام الذي يطالبون برحيله تماما.
تحديات كبرى إذن تنتظر الحراك والمنظمة العسكرية وتنتظر من يريد التغيير والتطهير والتأسيس لنظام جديد ديمقراطي يؤمن بالشعب وبتحقيق مطالب الحراك. مطالب الحراك الجزائري واضحة ولا يمكن الالتفاف عليها. هذه المطالب تتمحور حول تعيين شخص تتفق عليه الأطياف السياسية كافة. شخص مشهود له بالاستقلالية وبنظافة اليد والخبرة والنزاهة والالتزام، يقوم بتشكيل حكومة كفاءات وطنية تتولى إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية تمهيدا لانتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة وشفافة وديمقراطية بشكل شامل ووافٍ. سيخرج الشعب في الجمعة السابعة على التوالي يوم 5 من أبريل الحاليّ للمطالبة بتحقيق المطالب المعلقة إلى الآن، وهي رحيل كل من رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وكذلك الوزير الأول نور الدين بدوي وحكومته، وتعيين شخصية توافقية تلقى إجماعا عند عموم الجزائريين عبر مشاورات سياسية بين المجتمع المدني وقيادة الأركان والأحزاب، أين سنكون أمام إجراءات سياسية وليس دستورية. سلمية ومدنية الحراك في الجزائر، التي أخرجت بوتفليقة، هي من دون شك محطة تفاؤل للعالم العربي وللقارة الأفريقية عموما، إنما تبقى بداية مسار طويل ومعقد للانتقال النوعي في البلاد. نجاحه سيتطلب حوارا مدنيا لجميع أطياف المعارضة مع الحكومة ومع الجيش، وخريطة طريق محصنة دستوريا لإجراء الانتخابات الرئاسية والقيام بإصلاحات اقتصادية ومؤسساتية، تعيد للجزائر وزنها الطبيعي في شمال أفريقيا والقارة السمراء والوطن العربي. الحراك الشعبي متواصل على الرغم من استقالة بوتفليقة للاحتفال باستقالة الرئيس والمطالبة بإسقاط رموز نظام بوتفليقة كافة، من مجلس الأمة الذي سيحكم في الفترة الانتقالية بموجب المادة 102 من الدستور، ومن ثم الشعب لا يريد أن يكون رئيس مجلس الأمة رئيسا للبلاد، بوصفه رمزا من رموز الفساد، وكذلك المطالبة بإسقاط الحكومة الحالية التي نصبها بوتفليقة مؤخرا، التي لا تمت بصلة للحكومة المحترمة التي يمكن للشعب أن يثق بها، وهي التي تشرف على الانتخابات الرئاسية وتنظمها، فإسقاط هذه الحكومة سيكون أمرا حتميا، وتنصيب حكومة تكنوقراط جديدة من رحم الشعب الجزائري في مرحلة انتقالية، تكون مستقلة لتصريف الأعمال، وكذلك إقحام شخصيات وطنية ونزيهة من أجل المضي قدما في وضع القواعد المؤسسة للجمهورية الثانية.
عن صحيفة الشرق القطرية