قضايا وآراء

وسائل التّواصل الاجتماعي.. وقتلُ اللحظة

1300x600

أذكرُ يوماً من بضع سنوات كنتُ في رحلةٍ بحريَّةٍ في مضيق البوسفور، والتَفتُّ قليلاً عن إسطنبولَ وجمالِها وأسوارِها وجسورِها المعلّقة وخضرتها البهيجة وأمواجها البديعة وسحرِها الأخّاذ؛ إلى الأصدقاء على متن المركب الذي يمخرُ بنا عباب الموج في البرزخ الفاصل بين القارتين الآسيويّة والأوروبيّة، فوجدتُهم جميعاً -ربَّما- قد امتشقوا هواتفهم الجوَّالةَ ورفعوا أكفّهم مستديرين يمنةً ويسرةً كصوفيّ في حضرةٍ، وبدؤوا توثيق تفاصيل الرّحلةِ ومشاهدِها.

ما لفتني حقّاً أنَّ التّصويرَ والتّوثيقَ والبثّ المباشر وغيرِ ذلك من أساليب تخزين الجمالِ في الهاتف الجوّال قد استغرق وقت الرّحلةِ كلّها، وأنَّ الصّحاب لم يرَوا جمالَ الصّورة إلاّ من خلال جوَّالاتِهم، وأنّ أعينهم فقدت العناق المباشرَ مع المشهد البهيّ، والتأمّل بلا عنانٍ في فضاءات إسطنبول السّاحرة. فقد كانت الهواتفُ برزخاً بين العين المرسِلة والجمالِ المُرسَل إليه، وانتهت الرّحلة وشعرتُ أنّ أحداً لم يكن فيها على وجه الحقيقة والواقع سوى بعض العجائزِ الأوروبيّات الجالساتِ في ركنٍ قَصيٍّ من المركب، بلا هواتفَ ولا كاميرات.

بين وأدِ اللّحظة وإحيائها

ومن يومِها وأنا أزدادُ اندهاشاً من التّعامل الفتّاكِ مع اللّحظات الرائعة التي يحتاجُ المرءُ أن تنغمسَ فيها روحُه، ويعيشها بجوارِحه كلّها، وتهتزّ أركانه بها مع ارتجاف قلبه في حضرتِها، ويغيبَ فيها عن الصّورةِ إلى ما وراءَها.

أزدادُ اندهاشاً من التّعامل الفتّاكِ مع اللّحظات الرائعة التي يحتاجُ المرءُ أن تنغمسَ فيها روحُه، ويعيشها بجوارِحه كلّها، وتهتزّ أركانه بها مع ارتجاف قلبه في حضرتِها، ويغيبَ فيها عن الصّورةِ إلى ما وراءَها

فكم لحظة قُتلَت لأجل توثيقِها، وظنَّ فاعلُها أنَّه بذلكَ أحياها، وما درى أنَّها عاشَت في ذاكرة هاتفه جامدةً محضَ ذكرى ولكنَّها ماتت عند ولادتها، إذ أعرضَ عنها صاحبها وبنى بينه وبينها سوراً هو هاتفه فلا يراها إلاّ من خلف زجاجِ كاميرته.

إنّ إحياء اللّحظة في المستقبل القريبِ أو البعيد، وبعثها من جدث الذّاكرة الذّاتية أو الالكترونيّة، لا ينبغي أن يكون بعد وأدِها في الحاضر، فنحنُ أبناءُ حاضرنا، واللّحظة التي نعيشُها ونتفاعل معها روحيّاً عبر نافذة العين الباصرة مباشرةً هي التي تروّح عن نفوسِنا وتمدّنا بطاقةٍ وحيويّة للانطلاق مجدّداً في شعاب الحياة الوعرة. وتحصيل هذه الطّاقة مقصدٌ من أهمّ مقاصد التّفاعل المباشر مع الجمال المحيط.

قد ترى أنّه من الضّروريّ أن تلتقط ابتسامة طفلكَ التي تردّ إليكَ الرّوح وتساوي عندكَ الدّنيا وما فيها قبل إفلاتِها، وقد يكون من اللّطيفِ أن تلتقطَ جمال المنظر خلفك وبهاء المشهد بين يديك، وجلالَ الطّواف في العمرة والحجّ، ويمكنك ألاّ تفوّت مشهداً طبيعيّاً ساحراً في نزهةٍ دون أن تقتنصه كاميرتك، وكذلك من الجميل أن تحتفظ بصورة مَعلمٍ من أوابد الآثار قبل أن ترتمي في أحضان التّاريخ، ولكن حذارِ حذارِ أن يتجاوزَ الأمرُ عمليّةَ التّوثيق الذي تتمّ بأقلّ زمنٍ ووقت، ولا تجعل توثيق اللّحظة يسرقك من نفسك فيقودك دون أن تشعر إلى الانغماس التّام في التّعامل مع هاتفك الجوال، فلا ترى الجمال المحيط بك إلا من خلال شاشته مع ما فيه من إغراءات الإعدادات التجميليّة للصّورة وفلترتها، حتّى إذا انتهيتَ من عمليّة التّصوير الطّويل انشغلتَ بالنّشر الذي تجدُ في تفاعل النَّاس معه وإعجاباتهم به وتعليقاتِهم عليه؛ لذَّةً أشدّ من التذاذك بالجمال الذي وثَّقتَه وصوّرتَه؛ فذلكَ -والله- من الخسرانِ المبينِ لروحكَ التي يغدو همُّها عندئذٍ ما يقولُه الآخرون عن المشهد الجميل وأنتَ فيه، لا ما تقولُه روحكَ ويهتفُ به قلبك وأنت بين ثناياه.
وطّن نفسَك على اقتناص اللّحظة لكَ لا لجوَّالك، ولتوثّقها عينك الباصرةُ وتخزّنها في تلافيف دماغك وثنايا روحك وشغاف قلبك قبل أن تخزّنها في الذّاكرة الجامدة لهاتفك

منهج اقتناص اللّحظة

وطّن نفسَك على اقتناص اللّحظة لكَ لا لجوَّالك، ولتوثّقها عينك الباصرةُ وتخزّنها في تلافيف دماغك وثنايا روحك وشغاف قلبك قبل أن تخزّنها في الذّاكرة الجامدة لهاتفك، فإن رأيتَ ابتسامةً تحيي القلبَ من طفلكَ، سواءً أكان ابناً أو أخاً أو أيّ طفلٍ سحرتك ضحكتُه وذهب بلبّك جمال براءتِه، أو صادفتَ في طريقكَ مشهداً تدهشك به الطبيعةُ الغنّاء أو وضعيّة حيوانٍ أليفٍ تحبّه، أو خيلٍ مسوّمة تهيم في التّأمل بجمالها، أو تسربلتَ في خشوعٍ في عبادةٍ أو زيارةٍ إلى مسجدٍ، أو وقفت مذهولاً من عظمةِ السّابقين أمام آثارِ مَن راحوا، فلا تهرع إلى جوَّالكَ ولا تسبقك إليه يدك، بل أطلق لروحكَ عنانَها وشرّع نافذة عينك، واترك قلبكَ يعدو في مضمارِها.

واعلم بأنّك إن عشتَ الحالةَ بروحكَ فقد تزوَّدتَ بها لتكونَ وقوداً يدفعك ويرفعكَ في حياتك، ويشعل فيك الهمّة والرغبة في الانطلاق في وعثاء الحياة مجدّداً، وأمَّا إن قتَلتَها ووأدتَها لأجلِ ما تظنُّه تَوثيقاً فلن يكونَ حظّك منها أكثرَ من تصفيق المتابعينَ وثناءِ المُعلِّقين والذكرى التي تسترجعُ بها الحدثَ، ولكن هيهاتَ هيهاتَ أن تبعثَ فيكَ روحَه.

توازنوا -يرحمكم الله- ولا تقتلوا أجملَ لحظاتِكم وتحرموا أرواحكم منها بحجّة توثيقِها.

 

twitter.com/muhammadkhm