قضايا وآراء

هل تنطلق المصالحة المجتمعية من بيت الصحفيين المصريين؟

تعرض العديد من الصحفيين في مصر للقتل والاعتقال- تويتر
لا يمكن اختزال نقابة الصحفيين المصريين في كونها محض نقابة مهنية مثل غيرها من عشرات النقابات التي يبلغ تعداد أعضاء بعضها عشرات أضعافها، ذلك أننا أمام نقابة ذات طبيعة خاصة جدا، فهي وإن حملت اسم الصحفيين الذين يحملون بطاقات عضويتها إلا أنها تضم من بين هؤلاء الصحفيين أدباء وروائيين وشعراء ونقاد فنيين ورياضيين، ومؤرخين، ومقدمي ومعدي برامج تلفزيونية، ورؤساء أحزاب سياسية (أيمن نور-حمدين صباحي- أحمد طنطاوي- مجدي حسين- مدحت الزاهد- خالد داوود نماذج)، وبالتالي يمكن وصفها أنها بيت النخبة الثقافية وحتى السياسية المصرية، ولذلك فإن أي تغييرات فيها تمثل ترمومتر لحالة هذا المجتمع النخبوي على الأقل.

الانتخابات الأخيرة التي جرت منتصف آذار/ مارس المنصرم أسفرت عن تغيير كبير في إدارة النقابة على مستوى النقيب والمجلس، وهو ما أوجد روحا جديدة في النقابة، أعادت لها حيويتها التي افتقدتها على مدار السنوات العجاف الماضية. وساهمت الإدارة الجديدة في تعزيز هذه الروح الجديدة بالعديد من الخطوات الرمزية، مثل إعادة المقاعد والاستراحات التي نُزعت من قبل بهدف منع الصحفيين من ارتياد النقابة، وفتح قنوات تواصل متعددة عبر شبكات التواصل الاجتماعي حُرمت منها النقابة من قبل، وحرص النقيب والأعضاء الجدد على التواجد في مقر النقابة فترات طويلة عكس الوضع السابق.
الجديد في هذا الإفطار الذي كان تقليدا سنويا في سنوات ما قبل الانقلاب العسكري، هو دعوة النقباء وأعضاء مجالس النقابة السابقين دون إقصاء لأي تيار، بما في ذلك المنتمين للتيار الإسلامي

لكن الأهم من كل ما سبق حتى الآن من وجهة نظري هو الدعوة لإفطار جماعي بعد غد (الثلاثاء) في ذكرى تأسيس النقابة الثانية والثمانين (تأسست في 31 آذار/ مارس 1941)، وبمناسبة الذكرى الخمسين لحرب العاشر من رمضان/ السادس من أكتوبر. والجديد في هذا الإفطار الذي كان تقليدا سنويا في سنوات ما قبل الانقلاب العسكري، هو دعوة النقباء وأعضاء مجالس النقابة السابقين دون إقصاء لأي تيار، بما في ذلك المنتمين للتيار الإسلامي، مثل نقيب الصحفيين الأسبق ممدوح الولي، وعضو المجلس السابق محمد عبد القدوس، ووكيل النقابة وزير الإعلام الأسبق صلاح عبد المقصود (خارج مصر)، وهو قرار شجاع من مجلس النقابة الجديد يخالف السياق الحالي الذي استثنى دعوة الإخوان وحلفائهم للحوار الوطني، والذي يصر على وصمهم بالإرهاب.. الخ.

وبغض النظر عن حضور المدعوين أو اعتذارهم، إلا أن الدعوة في حد ذاتها تعد قرارا ثوريا، ذلك أنها تقدم نموذجا للمصالحة المجتمعية، واستعادة لحمة المجتمع الذي تعرض للتمزيق المخطط عقب الثالث من تموز/ يوليو 2013، ليصبح المصريون شعبين "انتو شعب واحنا شعب.. ليكو رب ولينا رب". وهذا التمزق طال الأسر المصرية، ووقعت بسببه حالات طلاق بين الأزواج، وفراق بين الأشقاء.. الخ.

لم يسلم الوسط الصحفي من هذا التمزق حيث كان من بينه المؤيدين والرافضين، وقد دفع هذا الفريق الأخير ثمنا كبيرا لموقفهم، حيث استشهد بعضهم أثناء تأدية عملهم الميداني (حسنا أن احتفت النقابة بذكرى استشهاد الصحفية ميادة اشرف التي قتلتها الشرطة في 28 آذار/ مارس 2015 في المطرية)، كما تم اعتقال عدد كبير من الصحفيين على مدار السنوات الماضية، لا يزال يقبع منهم في السجون حتى الآن أكثر من أربعين صحفيا وصحفية سواء كانوا أعضاء في النقابة أو في طريقهم لنيل عضويتها.

تقسيم المجتمع وتمزيقه هو أخطر ما فعله نظام 3 يوليو، ولا يزال حريصا على استمرار هذا الانقسام الذي يسهل له مهمته، فهو -على طريقة الاستعمار- يتبنى مبدأ "فرق تسد"، ولذلك فإن مهمة المصالحة المجتمعية واستعادة لحمة المجتمع هي من أقدس المهام الآن أمام القوى الحية في المجتمع من أحزاب ونقابات وجمعيات
تقسيم المجتمع وتمزيقه هو أخطر ما فعله نظام 3 يوليو، ولا يزال حريصا على استمرار هذا الانقسام الذي يسهل له مهمته، فهو -على طريقة الاستعمار- يتبنى مبدأ "فرق تسد"، ولذلك فإن مهمة المصالحة المجتمعية واستعادة لحمة المجتمع هي من أقدس المهام الآن أمام القوى الحية في المجتمع من أحزاب ونقابات وجمعيات.. الخ، التي أصبحت تدرك خطورة الأمر، ومن هنا تأتي أهمية مبادرة نقابة الصحفيين في عهدها الجديد التي نتمنى لها النجاح لتكون نموذجا يحتذى من النقابات والهيئات الأخرى.

يمكن لنقابة الصحفيين أن تستكمل مبادرتها للم الشمل من خلال الترتيب لعقد المؤتمر العام السادس للصحفيين، والذي يأتي بعد توقف تلك المؤتمرات منذ العام 2016، حيث كان آخر مؤتمر عام (المؤتمر العام الخامس)، وهذا المؤتمر العام يخصص لمناقشة قضايا تطوير المهنة وغياب الحريات، ومواجهة الأزمة الاقتصادية التي انعكست على الصحفيين أيضا، بمشاركة صحفيين من مختلف التيارات، دون إقصاء، مع السماح للصحفيين المهاجرين بالمشاركة بتقديم أوراق مكتوبة أو مداخلات حية عبر وسائل التواصل الحديثة، ساعتها سيقارن المجتمع المصري بين هكذا حوار جاد متنوع ومتعدد المشارب، وبين الحوار الوطني الذي دعا له السيسي في رمضان من العام الماضي، ولم يبدأ جلساته حتى الآن (أحدث موعد لانطلاقه بعد مواعيد سابقة هو 3 أيار/ مايو المقبل).

عودة الحياة لنقابة الصحفيين، والتحركات النشطة داخل أروقتها، مع عودة الحياة نسبيا أيضا إلى نقابة المهندسين التي تضم 800 ألف مهندس (بعد انتخاب نقيب يساري العام الماضي)، ومع احتجاجات فئوية كبرى شهدتها نقابة المحامين (تضم حوالي نصف مليون عضو) تأتي كتسخين (إحماء) قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في آذار/ مارس المقبل، وهي تتم بالتوازي مع حراك حزبي بهدف التوافق على مرشح رئاسي، وكذا تصاعد المطالبة بضمانات نزاهة حقيقية تسبق تلك الانتخابات. ومن المتوقع أن يتصاعد الحراك النقابي والسياسي خلال الفترة المقبلة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وتصاعد اهتمام العالم بها في ظل الأوضاع بالغة القسوة التي تعانيها مصر اقتصاديا وسياسيا.

twitter.com/kotbelaraby