أود في مستهل هذه الرسالة أن أتقدم
لمناضلي حزب التيار الديمقراطي بخالص التهاني والتبريكات متمنيا لهم من كل قلبي
التوفيق والنجاح بمناسبة انعقاد المؤتمر الثالث المتزامن هذه السنة مع الذكرى
العاشرة لتأسيس الحزب، فلن تكون هذه التهنئة مجرد أداء واجب وكفى تجاه حزب قضيت
فيه من العمر 6 سنوات من النشاط والمسؤولية في جميع المواقع، حين كنت في مكتبه
السياسي والتنفيذي وأشرفت على إدارة حملته التشريعية لسنة 2019، وكنت منسق لجان
تنظيم مؤتمره الثاني، وعضو لجنة الانتخابات البلدية 2018 وتحملت مسؤولية الإشراف
على هيكل مستشاريه البلديين مع بداية عهدتهم الانتخابية، ولكن كان أفضل المواقع
والأحب لقلبي كان وضع لبنات أكاديميته السياسية والإشراف على برامجها التكوينية
لسنوات، مع رفاق الرحلة المرحوم مالك والعزيز هيثم والشبيبة.
هذه الرسالة حتّمتها موجبات الرفاقية والصداقة كما تُسمى
تنظيميا، فبقدر الثناء على قرار الهياكل المضي قدما في تنظيم المؤتمر في هذه
الظروف الأشد تعقيدا في تاريخ
تونس؛ بقدر خوفي من مغبة السقوط في تكرار أخطائنا
الماضية.
يعلم المقربون أنني تقدمت بنهاية شهر نيسان/ أبريل 2022
باستقالة من حزب التيار الديمقراطي كمنخرط وقيادي، وأرفقتها برسالة للهياكل ضمنتها
موجبات التوديع وإعراب التقدير والاحترام.
والواجب اليوم في أدناه مساندة الحزب تنظيم مؤتمره عبر
الشدّ على الأيادي والمناصحة، اعتبارا من أنني أخال نفسي أحد العارفين بهذا الحزب
ومن الذين لا يعتبرون الخروج منه تنظيميا هو تملّص من الانتماء أو التمايز بإكراه،
فهي عائلة تشرفت بالانتماء لها، وهو بناء ثابرت كثيرا في تدعيم أسسه والرفع من
علوّه رفقة مناضلين أفاضل وفضليات، لهم مني كل محبة، إذ نالني شرف العمل معهم
واللقاء بهم في محطات نضالية مهمة في تاريخ هذا البلد.
المتعارف عليه أن المغادر يكون في حالة من العُصابية
والتشنج والشتيمة، سريع التدوين ولعن الماضي والقطيعة، ولكنني لست من رواد هذه
المسلك فقد اتخذت قراري بهدوء تام وبروية وقراءة وتفكير مليٌّ لا رجعة فيه، بحثا
عن أطر أرحب في الفضاء السياسي والمدني.
فاستقالتي كانت محسومة انطلاقا من خوض جولات من المراجعات
والتقييم والنقد الذاتي، وشعورا مني بموجبات الالتزام السياسي والأخلاقي تجاهه في
إتاحة للحزب تجديد كوادره بحثا عن الديناميكية وتجاوز عطب الخمول، وبالنظر لعدم
قدرتي على
التغيير للأفضل وعدم مقدرتي على المواصلة بعد فشل كل محاولات تجميع
العائلة
الديمقراطية الاجتماعية بنهاية مشروع المنتدى الاجتماعي الديمقراطي.
ولكي لا يصير الهيكل أضيق من خطانا، كان من الواجب أن
ننسحب بعزة وشرف واحترام متبادل، فمع الأسف لم أعد أتحمل وزر المسؤولية الجسيمة
تجاهه في ظل مجموعة من الاختلافات المنهجية والمضمونية والأسباب التي يبقى الخوض
فيها من الشأن الداخلي للحزب ويفرضها واجب التحفّظ.
وطبعا لن أتملص من المسؤولية الكاملة لجميع القرارات
الرسمية الصادرة سابقا عن الحزب، دون أن اعلن اليوم مخالفتها بعديا، وفخور
بمساهمتي المباشرة لآخر اللحظات في مراكمة التمايز البنّاء الذي فُرض من
مناضلين/ات أحرار دفاعا عن شرف حزب يتخذ من مسماه "الديمقراطي" رغم
محاولات العجز والتعجيز في محطات تاريخية فجر 26 تموز/ يوليو و17 كانون الأول/
ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير 2021، وما تلاها لاحقا من مواقف شجاعة ومبدئية ضد
الانقلاب ودفاعا عن الديمقراطية، في تضاد مع معسكرات الاصطفاف سوى كيانات الحكم
السابقة اليمينية الرافضة لكل المراجعات والمتهرّبة من مسؤولية الفشل من جهة أو
تنسيقيات ومطبلي العبث الانقلابي من جهة أخرى.
تمنياتي الصادقة لأصدقائي وصديقاتي بالتوفيق والسداد في
أشغال مؤتمر الحزب القادم، وأملي أن يكون في مستوى التطلعات وفضاء لطرح نقاش عام
وثري وفرصة للتقييم الموضوعي وانطلاقة حقيقية لبلورة اللوائح المضمونية والبناء
البرامجي، بهدف ترسيخ دعائم حزب يسار وسط حقيقي مؤسساتي جامع.
لذا سأستسمح رفاقي من المؤتمرين ومناضلي التيار الديمقراطي
وأغتنم الفرصة فأقول إنه من الملحّ اليوم في هذه الأوقات الخطرة التي تمر بها
البلاد أن تبادروا كجزء من هذه العائلة الديمقراطية الاجتماعية لإطلاق عملية نقد
ذاتي صادقة؛ بحثا من خلالها على تحويل الانتباه نحو إيجابيات موجودة للمراكمة عليها
واستئناف البناء المشترك، وكذلك أن تتحملوا فيها كل الشجاعة والموضوعية دون تصفية
الحسابات الشخصية بإزاحة الستار عن عيوب وثغرات في الأداء السابق وتبيان النقائص
والتقصير في المشروع وتجاوز حالة العطب.
ما يميز الكيانات الحية القادرة على تجديد نفسها والتقدم
للأمام قدرتها على النقد الذاتي، كون ذلك الوسيلة الوحيدة لإدراك القصور والانطلاق
من الواقع نحو استشراف المستقبل والعمل لبلوغه، فلا يجب أن تكتفي بالتغني بأمجاد
رائعة ونضالات سابقة، ولا إلقاء اللوم على الخصوم بالإخفاق والتنديد وكفى، رغم ما
افتعله عرابو السياسة الزائفة والتوافق المغشوش والمقاولة البرلمانية طيلة سنوات؛
من ترذيل للمشهد وعبث متواصل يرتقي للجريمة المنظمة خدمة لمصالحهم ومصالح حلفائهم
ومموليهم.
سادتي إن الأحزاب، كغيرها من المؤسسات، لا تُولد ولا تتطور
من فراغ، لكنها تحتاج إلى رؤية وأهداف واضحة، وأطر واستراتيجيات وأجندات، ونصوص
قانونية.
قد تختلف التقييمات حول توفق التيار الديمقراطي في الأخذ
بهذه العناصر المذكورة تباعا وحداثته مقارنة بغيره من الأحزاب التقليدية، ولكن
يبقى الهاجس الأكبر مع كل موعد مؤتمري للحزب هو الإجابة على سؤال متى يُطور البناء
الداخلي بما يتوافق مع الطموح المستقبلي؟
ما زالت على نفس اليقين بأن الواجب اليوم أن يٌترك مفهوم
الحزب الكلاسيكي الموروث على الطبيعة لمصلحة مفهوم الحزب "المؤسسة" وما
يتيحه من فرصة لتحرير الطاقات، أيضا ليكون مشتلا للنخبة الشبابية لإطعام حزبكم
عموديا بالعناصر البارزة.
فالبنية المؤسساتية من أهم مصادر القوة التي يمكن أن
يمتلكها أي حزب سياسي وتعطيه الكثير من الميزات وعوامل التفوق وتحميه من الكثير
مما قد يعترضه من تحديات وعقبات، بل ربما تحدد مصيره وقدرته على الاستمرار في
تأدية مهامه دون أن يتعرض للانكماش أو الاندثار.
شخصيا كثيرا ما اعتبرت أن الخطر الذي قد اعترض ويعترض
التيار الديمقراطي هو الغموض البنائي الحزبي وهشاشة أدواته التنظيمية وإفراطه في
المنصة الافتراضية حصرا كممارسة للسياسة، والذي كثيرا ما أدى إلى عداء دفين ومكبوت
ومتصاعد من المنخرطين والقيادات المحلية والجهوية ضد القيادة الحزبية المركزية، بل
ويؤدي إلى عنف فعلي ممّا يخلق الأزمات الحزبية، ويؤثر بالتالي في أدائه السياسي.
لذا فترتيب بيتكم الداخلي شرط أساسي لتوطيد أركان حزب
المؤسسات والبرامج المنفتح على الطاقات والجهات والمستوعب للناس، وخطوة نحو تصحيح
الفراغات والنقائص التي ظهرت للعيان منذ صعود الحزب بعيد الانتخابات البلدية 2018.
ببساطة شديدة، مفهوم المؤسسية في لغة السياسة يعني ويتمثل
في قوة التنظيم الداخلي للحزب وفي الممارسة الديمقراطية داخل أجهزة الحزب،
والديمومة والحضور الفعلي والحراك السياسي الفاعل والقدرة على التأثير وتجاوز
الأزمات والصراعات داخله، وتقديم المبادرات والخيارات والحلول حول القضايا
والمستجدات وإدارة الخلاف.
تبقى أفضل النجاحات داخل التيار الديمقراطي سلاسة الانتقال
والتغيير القيادي، فكلما كان التنظيم قادراً على تجاوز مشكلة انتقال السلطة سلمياً
خصوصا تداول أعضاء المكتب السياسي والأمين العام، كلما أشار ذلك إلى رقيّه من
الناحية المؤسسية. وتبقى الإشادة ضرورية بشجاعة تصعيد مجموعة شبابية لمكتبه
السياسي مؤخرا، وهو ما يمنح فرصة إدخال ديناميكية على عمل المؤسسات وتهوية الفضاء
الداخلي وتجويد النقاش داخل هياكله، والذي كثيرا ما تعرّض لأعطاب ومطبات وسلطة
رقابية من البعض، فأكثر ما يُصيب السياسة في المقتل هو تمرين الأتباع على خوض
الشأن السياسي بدوغمائية وطهورية مفرطة وتنميط الشخصيات والمعارف في قوالب جاهزة،
ويشجّع بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير.
ما زلت أستذكر آخر النقاشات قبيل المغادرة، فقد انصب
الاهتمام وجل التركيز عند تقييم العهدة الحزبية/ السياسية المنقضية على مواطن
الضعف في الخطاب والتواصل وهنات الإدارة التنظيمية ونتائج التموقع السياسي
والتحالفات، ومآلات الدخول للحكومة والتقارب مع الرئيس، ولكن وللأسف لم نجد
اهتماما بالجانب الفكري والمرجعي المتذبذب يمينا ويسارا، وهو الذي يعطي كل الأسباب
الوجيهة التي أوجدت فقرا أصاب المضمون السياسي والبرامجي.
بل أكاد أجزم أن العقل المفكر للحزب دخل في عطالة شديدة
طيلة العهدة الفارطة وعجزنا فيها أن ننتج لوائحا مؤتمرية ترسخ بناءه الفكري وتبلور
رؤيته للحكم والمعارضة عبر برامج انتخابية وسياسات عامة، بعيدا عن وثائق السرد
السياسي وترويج السطحيات وما أكثرها..
إن الضرورة السياسية والشجاعة الحزبية تقتضي الإعلان عن أن
هذا المؤتمر سيكون "مؤتمر المضامين" للمصادقة على لوائح الحزب وتجويد
أدبياته في علاقة بالاقتصاد والمجتمع والثقافة والبيئة والحريات.. ولتوضيح
الاختيارات ووضع لبنات الهوية الاقتصادية والاجتماعية، والمبادرة الجدية لطرح تزعم
العائلة السياسية بما يقتضيه من اقتراح برنامج سياسي منفتح يكون منافسا وبديلا
لليمين بجل تفريعاته، وخصوصا اليمين الشعبوي، وهو ما يتطلب إجراء تحليل حقيقي
لنجاح الشعبوية دون الوقوع في إدانة أخلاقية عقيمة وذات نتائج عكسية.
إن الغاية المرجوة هي تجديد الجانب المضموني (البرنامج
العام والاستراتيجي)، ونافل هو القول أن أي إطناب في المنافسة الانتخابية الداخلية
مثل المرات السابقة قد يمنع من التركيز على الأهم، وهو ضبط توجهات الحزب وتحديد
عناصر خطابه المستقبلي وتطوير السرديات، وكذلك توفير الصيغ القانونية التي تمكن
الحزب من فتح الباب لانضمام قيادات جديدة والانفتاح على جبهات سياسية، ولمَ لا
الانطلاق في توحيد العائلة السياسية "فالدزّ على
اليسار" الذي كنا من
الداعيين له منذ سنوات مضت ليس مجرد حملة افتراضية نتباهى بها أحيانا.
من باب التذكير، إن هناك طريقا طويلا لنقطعه جميعا بحثا عن
الأمان، فهذه الدولة ظلت لسنوات بلا عقل وبكل أسف يترنح البلد بسبب الخطيئة
والكبرياء والتكتيكات المغشوشة، فالديمقراطية المعطوبة ما قبل 25 تموز/ يوليو كانت
أمرا خطيرا لا يمكن استمراره، وما بعد 25 تموز/ يوليو هو انقلاب وأمر أخطر لا يمكن
البناء عليه ومعه.
لذا فإنقاذ البلاد لن يكون في غياب مشروع ديمقراطي اجتماعي
متكامل تكونون جزءا منه؛ يملأ الفراغ الناجم عن انفصال السلطة عن المجتمع ومشاغله،
ولا يكون بعيدا عن المشروع الفكري وقيمه، ومن دون رؤية سياسية- اجتماعية شاملة،
يتعرف على مشكلات المجتمع الفعلية على نحو موضوعي وتفصيلي وعلمي، بعيدا عن العفوية
والرومانسية المضخمة واستسهال عملية التغيير.
لا بّد من الإقرار بأن عطب ديمقراطيتنا تحوّل إلى أزمة
حقيقية تُبصرها، حيث خيبة الأمل من السياسة آخذة في الانتشار في صفوف الناس.
ولأن السياسة تُولد من رحم التاريخ وكم مرة في تاريخ
الديمقراطية الطويل توجب الكفاح من أجلها وضياعها والنضال من أجلها والدفاع عنها
من جديد، فالواجب الوقوف اليوم بكامل الشجاعة أمام امتحان المراجعات والتقييم
والاستدلال لرسم طريق لديمقراطية الرفاه الاجتماعية..
تيقّوا جيدا، نحن لسنا في نهاية ديمقراطيتنا، نحن فقط
نواجه عقبات البداية، وباختصار شديد لسنا بحاجة للحديث عن الديمقراطية فقط بل
علينا أن نتعلم النضال من أجلها مرة ومرات..
نعم إن المعركة أكبر من مجرد تنديد بالوضع والاحتجاج،
وبدلاً من ذلك يجب عليكم مرة ومرات أن تفتخروا بهذه المرجعية وهذا الفكر وهذه
العائلة، وأن تجرؤوا مرة أخرى على إقناع المواطن بأن فكرة الديمقراطية الاجتماعية
التقدمية والتطلعية لها كل الإمكانات لطرح مشروع إنقاذ وطني إصلاحي يُراعي فيها
التسوية الاجتماعية والعدالة، ليتسنى تحويل تطلعات الفئات والجهات والمناطق
المحرومة إلى هدف مركزي لتصور السياسات وتنفيذها عبر مقدمات إدماج فعلي؛ يقوم على
العمل من أجل إنتاج الثروة والعدالة في توزيع مردودات اقتصاد ديناميكي وطني منتج
بطريقة منصفة وفاعلة.
إذا أردتم فعلا استبدال الخوف بالشجاعة والأمل والثقة لا
ننتظر سلطة العاجزين، نحن أبناء هذا الوطن ويجب أن نناضل سوية ومن مختلف المواقع
من أجله ولا يكون بيننا وبين الشعب أي حاجز لنقدم له قصة مختلفة نرويها، عن الدولة
والمجتمع على حد سواء: قصة تحمل قناعة فكرية، أخلاقية وسياسية.
ختاما، أملي الكبير في رفاق الرحلة بما تمثله أدوارهم
ووعيهم بمتطلبات المرحلة والتحدي القادم، لذا فإن أردوا تمثيل يسار الوسط واستعادة
ناخبيه ومريديه، فسيكونون مطالبين ببعض من التواضع بحيث يجب أن يكونوا قادرين على
تسمية المشكلة إذا كانوا راغبين في حلها.
أحبتي في التيار شغف النصر باق وسنبقي دائما على الود
والمحبة والاحترام لمن يقاسمنا إياها وستبقى قلوبنا مليئة بالأمل.
دمتم ودام ودّكم..
تونس في 27 نيسان/ أبريل 2023
مؤتمر التيار الديمقراطي