لم يكن بالأمر المفاجئ أن تبادر الحكومة الإسرائيلية في تنفيذ عدوان جديد
على
غزة، وأن ترتكب حكومتها الفاشية جرائم إبادة جديدة باستهداف منازل المدنيين والمقاومين
وقتلهم مع زوجاتهم وأطفالهم، لبساطة الحقائق التي خبرها الشعب
الفلسطيني ومقاومته؛
سياسة طمس هويته وحقوقه لأكثر من 75 عاما، بعد اقتلاعه من أرضه ومواجهته جرائم
وإرهاب العصابات الصهيونية المشكِّلة لكيان غاصب يمثل في ذهن الضحايا الفلسطينيين
التجسيد الحي والعميق لنكبتهم، ويمثلون في ذهنيته وعقيدته النقيض الأبدي والنافي
لأساطيره وخرافاته التلمودية والصهيونية القائمة على سفك دم "الأغيار"
لتحقيق الوجود الصهيوني فوق أرض فلسطين واستيطانه في أكذوبة "أرض بلا شعب
لشعب بلا أرض".
المفاجئ في جولة العدوان الأخير على غزة، وتكثيف عدوان جرائم إعدام
المقاومين في مدن الضفة المحتلة والقدس وتشديد الحصار عليها، هو الفشل الإسرائيلي
بقتل روح
المقاومة لدى الشعب الفلسطيني في جنين ونابلس وطولكرم والخليل والقدس
والداخل الفلسطيني المحتل عام 48، وهو يضاف لفشلٍ تاريخي بتحقيق هزيمة مطلقة على
الفلسطينيين بالضغط عليهم بكل السبل والإمكانيات الضخمة التي يتسلح بها المشروع
الصهيوني وعدوانه.
ومن يعرف تفاصيل القضية الفلسطينية وظروف الشعب الفلسطيني في تصديه
ومواجهته لمعركة قتل الوعي عنده، ومحاولة إحداث شرخ كبير بينه وبين مقاومته على
الأرض، يدرك هذه الحقيقة وأبعادها ودلالاتها، حقائق واضحة تقود قسراً لحقيقة أخرى
لا تقل عنها وضوحاً في أذهان الشعب الفلسطيني والعربي، وهي حالة الانهيار العربي
الكلي في ذروة كل عدوان إسرائيلي يتم على الشعب الفلسطيني الذي تربك مقاومتُه
بأدواتها وإمكانياتها؛ المشروعَ الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة العربية كلها،
والأهم أنها تفضح وتُعري جيوش الأنظمة وترسانتها العسكرية وسياساتها التي باتت
بوصلتها دموية ووحشية تتجه إلى الشارع العربي.
ففي ذروة العدوان على غزة قبل أيام، واتساعه في مدن الضفة من خلال ملاحقة
وإعدام المقاومين، وسقوط أكثر من 33 شهيدا بينهم نساء وأطفال وجرح المئات، وتدمير
منازل المدنيين بقصف جوي لطيران
الاحتلال، وإقرار الخطط الاستعمارية وتنفيذ سياسة
التهويد والاقتحام للأقصى من عصابات الاستيطان، كانت الجامعة العربية وبعض قادتها
يفركون أيديهم فرحاً باستعادتهم للطاغية السوري، ويرفعون من منسوب التفاؤل بعودته
التي "ستصحح العمل العربي" بعيداً عن لجم العدوان الإسرائيلي على الأرض.
وعلى غير المعتاد في مثل هذه الظروف، حظي الفلسطينيون بكمّ قليل من عبارات
الإدانة والشجب للعدوان وضرورة وقف التصعيد، وأصبح التعاطي مع ملف العدوان عليهم
أمنيا بامتياز من بعض الأطراف العربية. وهنا نخص النظام المصري الذي يحصر دوره
ومهامه الوسيطة لنقل الرسائل الأمنية المهددة للمقاومة الفلسطينية في غزة، ويضغط
عليها من بوابة التحكم بمعبر رفح، باعتبار أن الوضع الأمني يُقلق هدوء النظام
العربي وعلاقته المتطورة بالتحالف والتطبيع مع المشروع الصهيوني.
النيل من الروح المقاومة لدى الفلسطينيين، وهو هدف مشترك تسعى لتحقيقه
المساعي العربية التي تدخل وسيطة بعد كل مذبحة وجولة عدوان لإخراس الضحايا
الفلسطينيين وضمان صمتهم، وتلقّي صفعات العدوان والتصفية دون رد، وهو ما لم يتحقق.
وبالنظر لهذه الروح كزاوية خطرة تُمثل تاريخياً تهديداً للاحتلال ولأنظمة
عربية عاجزة فعلياً وكلياً أمام شعوبها برد العدوان عن نفسها، كما يحصل مع النظام
السوري على سبيل المثال واكتفاء مؤسسته العسكرية والأمنية بدور المتكتف أمام
الاحتلال رغم وجود ترسانة كبيرة من الأسلحة لديها؛ لكنها تفضل التمسح بشعارات
المقاومة مع أنظمة عربية وإقليمية، يلجأ بعض هذه الأنظمة لتسخيف مقاومة الشعب
الفلسطيني الفردية والجماعية للمشروع الصهيوني لتبرير عجزها المفضوح أمام شعوبها،
ولكسر عزيمة الشعب الفلسطيني والضغط عليه للخضوع والاستسلام.
تتبنى بعض البروباغندا العربية الرواية الإسرائيلية من تحميل الفلسطينيين
الضحايا ومقاومتهم مسؤولية وجودهم على أرضهم وفي مدنهم وبلداتهم المحتلة؛ إن
مارسوا فعل مقاومة المحتل وعدوانه.
فإذا كانت أدوات الشعب الفلسطيني رغم ضآلة الإمكانيات وتواضعها وظروفها
المعقدة تستطيع أن تحدث إرباكا وشللاً وإخفاقا لدى الجانب الإسرائيلي باعتراف
قادته، فكيف لها إن كانت تحظى بإسناد مماثل من أنظمة تمتلك طائرات ودبابات وجيوشا ومنظومات صاروخية وأمنية هائلة؟ بالطبع لا يراهن المدافعون عن حقهم ووجودهم على تلك
الفرضيات والأوهام التي كانت أصلاً أحد أسباب استمرار نكبتهم وتقوية وجود المحتل
على أرضهم.
بعد اتضاح الأهداف والغايات التي تقوم عليها أنظمة
الاستبداد العربي، وبعد
سقوط الحالة الاستعمالية لقضية فلسطين من الخطاب الرسمي العربي ورفع منسوب التطبيع
والتواطؤ مع المحتل، تزداد المخاطر أكثر فأكثر خلافاً للصورة التي تُقدَم من
الجانب العربي المحتفي بنجاح وساطته أو المستخدِم صمودَ الفلسطينيين ومقاومتهم
كمادة احتفالية في وسائل إعلامه لتجميل صورة قمعه لشوارع لا تستطيع التعبير عن
رفضها للظلم والاحتلال والعدوان أو رغبتها المشاركة بمواجهته.
أنماط ووسائل المقاومة في فلسطين، التي فرضت التعامل الخلاق والديناميكي مع
صيرورات مواجهة العدو، وأصبحت مرآة مخزية لجيوش عربية وجنرالات عسكرية يسهرون
بصورة دؤوبة على قمع الشارع العربي وتزييف وتشويه وتسطيح أدواره، لإجهاض شروط تطور
وعيه وبنائه وتنميته. لذلك، عملية الهيمنة العسكرية على الشارع العربي والإذلال
السياسي والاقتصادي والأمني تحت مظلة أساطير الدونية الرسمية العربية عن تفوق
إسرائيل دحضتها مقاومة الشعب الفلسطيني، وفي معركة الأسرى بالأمعاء الخاوية بعزيمة
جبارة، أو في سلاح يصنعه المقاومون بأيديهم، رغم محاولة التطهر بنسب تزويد
المقاومين ببراغي وتقنية تصنيعه.
فالقضية والقصة تتمحور بالإرادة الغائبة والمقتولة في عقل جيوش عربية حارسة
لترسانة القمع الداخلي ولحدود المحتل، وذلك يكفي الشعب الفلسطيني تشريفه بإرادة
وعزيمة لم ولن تنكسر، رغم ضخامة المؤامرات والعدوان.
twitter.com/nizar_sahli