ما من حرب، وبغض النظر عن حجمها، أو مكانها، أو أطرافها، إلاّ ويحمل
طرفاها الأساسيان إلى جانب السلاح، وألوان الحصار الممكن، سلاحاً أيديولوجياً. وهو
السلاح المعنوي، ذو البُعد المادي (موضوعياً)، الذي يستخدمه كل طرف في تسويغ موقفه
وأهدافه، كما في نقد الطرف الآخر، بهدف عزله ودحره أخلاقياً وفكرياً (التحريض ضده).
وهذا ما طبق في كل حرب، واستخدم كسلاح بتار، بالرغم من طبيعته
الأيديولوجية ـ الفكرية ـ السياسية. أما
في تقرير مصير الحرب فليس له الدور الحاسم فيه. لأن هنالك عوامل وأبعاداً أخرى هي
التي تحسم، أكثر، كالسلاح والعديد والمعنويات القتالية، وحسن القيادة، وحالتي
الفتوة والنهوض، أو التدهور والشيخوخة، أو العدل والحق أو الظلم، أو الأفضلية
التاريخية، أو عكسها. ولكن ثمة نصيب مقدّر للبُعد التحريضي والأيديولوجي. ولا مفرّ
منه.
لقد بلور كل من
الصين وروسيا من جهة، وأمريكا والغرب من جهة ثانية،
الموقف من الطرف الآخر (البُعد التحريضي النقدي) والموقف من النظام العالمي الذي
يريد كل منهم تشكيله، على ضوء ما ستنتهي إليه هذه الحرب، أو امتداداتها إذا ما
توقفت لسبب، أو آخر.
من جهة أمريكا وحلفائها شُنت "حرب" سياسية ـ إعلامية
أيديولوجية ضد الصين وروسيا، باعتبار نظاميهما دكتاتورياً، وفردياً، مقابل النظام
الديمقراطي الغربي. وهو السلاح الأيديولوجي نفسه الذي استخدم ضد الاتحاد السوفييتي
في الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي 1991.
لقد بلور كل من الصين وروسيا من جهة، وأمريكا والغرب من جهة ثانية، الموقف من الطرف الآخر (البُعد التحريضي النقدي) والموقف من النظام العالمي الذي يريد كل منهم تشكيله، على ضوء ما ستنتهي إليه هذه الحرب، أو امتداداتها إذا ما توقفت لسبب، أو آخر.
أما على مستوى ما تستهدفه أمريكا وحلفاؤها من نظام عالمي، فهو
استمرار النظام العالمي القائم بكل أبعاده الهيمنية الأمريكية، عسكرياً وسياسياً
واقتصادياً ومالياً، مع إضافة بُعد أيديولوجي جديد يراد فرضه على العالم. وهو ما
عُبّر عنه بتكريس أيديولوجية "الميم" في العلاقات بين الجنسين الذكري
والأنثوي، بالعلاقة التقليدية، والعلاقات التاريخية عموماً بينهما.
في الحرب الباردة خاض الاتحاد السوفييتي حربه الأيديولوجية بالاعتماد
على أفضلية النظام الاشتراكي والأيديولوجيا الاشتراكية على النظام الرأسمالي
الاستعماري ـ الإمبريالي ـ الاستعمار الجديد. ولكن هذا السلاح الأيديولوجي لم يكن
لاعباً مؤثراً في الحرب الباردة، وانتهى بكارثة على الاشتراكية. بل بانتصار مدوٍ
للأيديولوجية الليبرالية ـ الديمقراطية الرأسمالية الغربية. وقد وصل الوهم ببعض
المنظرين باعتبار ما وصلته ديمقراطية الغرب ببعديها المادي والأيديولوجي شكّل
"نهاية التاريخ" (فرانسيس فوكوياما).
على أن الحرب العالمية الجديدة الراهنة قد اتسّمت بطرح أيديولوجي ـ
روسي مختلف عن الطرح السابق الذي مثله الاتحاد السوفييتي، وحتى مثلته حركات دول
العالم الثالث في مرحلة الحرب الباردة السابقة كذلك، أو إلى حد ما.
النقد التحريضي السياسي ـ الاقتصادي الأيديولوجي تمثل في نقد النظام
العالمي، ليس باعتباره رأسمالياً، وإنما باعتباره نظاماً أحاديّ القطبية، تستأثر
فيه أمريكا بالهيمنة العسكرية والمالية على العالم، وذلك بالرغم من أن العالم
يتسّم بتعدّد القطبية على مستوى عالمي. ومن ثم فهو ظالم ويتناقض مع مصالح كل دول
العالم، كبيرها ومتوسطها وصغيرها.
هذا التحريض يهمّ دول العالم بأسره، بما في ذلك الدول الأوروبية،
والدول الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الأخرى، من حلفاء أمريكا في هذه الحرب. لأن
احتكار أمريكا لموقع الدولة الكبرى المهيمنة، والمنفردة في السيطرة العسكرية
والاقتصادية والمالية والسياسية، يلحق أضراراً متعددة، ولا سيما في الاقتصاد
والمصالح المالية. فعلى سبيل المثال، عندما تفرض أمريكا على العالم كله احتكار
الدولار في المعاملات المالية، وتجعله المرجع الوحيد، كما كان الذهب سابقاً،
معياراً للنقد العالمي.
فمن هنا يكون التحريض ضد الأحادية الأمريكية قضية لا تخصّ بلداً ما
بعينه، أو كتلة دولية بعينها، أو نظاماً اقتصادياً وسياسيا، أو أيديولوجياً بعينه،
وإنما يمسّ قضية تهم مصالح كل الدول غير أمريكا، عملياً وموضوعياً. وهي قضية لا
تستطيع أمريكا، أو يستطيع أحد حلفائها الدفاع عنها، إلاّ وهو تابع، مستلب، لا يضع
مصالحه العليا في المقدمة.
هذا يعني أن الهدف الروسي ـ الصيني الذي يُراد تحقيقه من وراء هذه
الحرب، يشكل مصلحة عالمية، وليس بقضية خاصة، كما كان الحال في الحرب الباردة في
الصراع مع المعسكر الاشتراكي. ولكن حلفاء أمريكا، ولأسباب تاريخية، وربما،
مستقبلية، يقبلون بالتبعية لها.
الحرب العالمية الجديدة الراهنة قد اتسّمت بطرح أيديولوجي ـ روسي مختلف عن الطرح السابق الذي مثله الاتحاد السوفييتي، وحتى مثلته حركات دول العالم الثالث في مرحلة الحرب الباردة السابقة كذلك، أو إلى حد ما.
القضية الهامة الكبرى التي تتبناها الصين وروسيا، فهي المطالبة
بإقامة نظام دولي متعدد القطبية عالمياً وإقليمياً، ويخضع إلى إرادة جماعية وإلى
القانون الدولي، وإلى مبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة، عدا هيكلية تشكيلها، وما
يتمتع به مجلس الأمن من امتيازات، وما تتحكم فيه أمريكا من خلال مقرها في نيويورك،
ونفوذها العالمي من سيطرة على هيئة الأمم. وقد أصبحت منحازة مشلولة، مزدوجة
المعايير، وهي تحت الهيمنة الأمريكية.
هنا أيضاً ثمة مصلحة عالمية لأغلب دول العالم في بناء نظام عالمي
جديد على أسس تعدد القطبية والقانون الدولي، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتصحيح
هيكلته، ورفع يد الهيمنة الأمريكية عنه، بما في ذلك نقل مقره.
القضية الثالثة التي ستخسرها أمريكا في صراع الحرب العالمية الراهنة،
بما يتعدى الحرب في أوكرانيا بالطبع، تتمثل في الارتكاز إلى تهمة الدكتاتورية
الموجهة ضد نظامي الصين وروسيا. وذلك لأن، عكس موقف المعسكر الاشتراكي في الحرب
الباردة، لا تسعى
روسيا أو الصين في اتخاذ، أي من نظاميهما نموذجاً عالمياً، أو
فرضه على العالم. فموضوع النظام الصيني، أو الروسي، شأن خاص بكل منهما. وتصر
الصين، كما روسيا على أن من حق كل شعب، وكل دولة اختيار النظام الخاص به أو بها.
هذا وليس من حقه أن يفرضه على أحد غيره، كما يقتضي القانون الدولي، ومبادئ ميثاق
هيئة الأمم المتحدة.
الأمر الذي يعني أن تهمة الدكتاتورية ساقطة من أساسها، ولا تشكل قضية
للتداول العالمي، أو لتغطية أحادية القطبية.
بل أن المبدأ الذي تدافع عنه الصين، بقوة، وتأخذ به روسيا، هو التشدد
في اختيار كل شعب من شعوب العالم، لما يريده من نظام له ولبلده، استناداً إلى
حضارته وتاريخه ومعتقداته ومصالحه. فالنظام العالمي متعدّد القطبية يدعو، في ما
يدعو، إليه يتجه إلى تكريس هذا الحق للجميع عالمياً.
هذا المبدأ يتناقض مع الاستراتيجية الغربية منذ نشأتها المعاصرة حتى
اليوم. وقد دأبت على فرض نظامها الحداثي والرأسمالي على كل العالم، وذلك على أساس
مركز وأطراف تابعة.
الهدف الروسي ـ الصيني الذي يُراد تحقيقه من وراء هذه الحرب، يشكل مصلحة عالمية، وليس بقضية خاصة، كما كان الحال في الحرب الباردة في الصراع مع المعسكر الاشتراكي. ولكن حلفاء أمريكا، ولأسباب تاريخية، وربما، مستقبلية، يقبلون بالتبعية لها.
فنحن هنا في هذه الحرب العالمية في صراع أمام استراتيجية تريد فرض
هيمنتها على كل العالم عسكرياً واقتصادياً ومالياً وسياسياً
و"أخلاقياً"، بحيث يستمر النظام العالمي على أساس استعماري امبريالي،
وعالم تابع وخاضع، فيما المطلوب إقامة عالم متعدد القطبية خاضع لمبادئ القانون
الدولي، والمبادئ الخاصة بالمساواة بين الشعوب، وحق كل شعب في اختيار نظامه
وحضارته، وقيمِه اختياراً حراً.
الأمر الذي يعني أن الاستبداد العالمي هو الذي تمثله أمريكا، كما
تجلى في النظام العالمي الذي ساد طوال القرن العشرين حتى اليوم، مقابل نظام يفترض
به أن يكون أقرب ما يمكن من العدالة والمساواة والحرية. أو في الأقل لا يكرر
النظام الاستبدادي العالمي، أو يعيد إنتاج استبداد مثل ما هو قائم اليوم.
ومن ثم فإن أسلحة الأيديولوجيا، وما يتعلق بأهداف الحرب العالمية
الراهنة، ونتائجها هي، في هذه المرة، وبصورة خاصة، ليست في مصلجة أمريكا وحلفائها.