من كان يصدّق أن يحدث ما حدث في
غزة؟ ومن
كان يتصور أن يصمت العالم أمام المجازر المفتوحة هناك من قصف عشوائي أوقع أكثر من
ثمانية آلاف شهيد أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء؟ لم يعد لأحد الحجة في التذرع
بأنه لا يعلم فالكل شاهد على الجريمة مشرقا ومغربا.
لا أظن أن الهمجية الغربية جديدة ولا أن
توحش
الاحتلال جديد ولا أن حقوق الإنسان والشرعية الدولية والقانون الدولي أكاذيبُ
ومساحيق من أجل تجميل الوجه القبيح للنظام العالمي المتوحش. لكن الجديد يمكن أن
يسجل على ثلاثة أصعدة أساسية: نهاية محور المقاومة والممانعة ثم تحالف الاستبداد
العربي ومشروع الاحتلال ثم تجدد الوعي الشعبي بكلا الصعيدين.
غزة ومحور الممانعة
بنى هذا التشكيل السياسي المسلح كل تاريخه
على فكرة مقاومة الاحتلال ونجح في إيهام الشارع العربي بأن فيلق القدس والمليشيات
المسلحة في جنوب لبنان والعراق واليمن وسوريا إنما سُلّحت لأجل محاربة المحتل
وتحرير الأرض. لكن الثورات العربية كانت الحدث الحاسم الذي كشف زيف هذه الشعارات
بعد أن نجحت المليشيات المرتبطة بهذا المحور في تدمير مسارات الثورات وتخريبها وسط
برك من الدماء والأشلاء خاصة في سوريا.
غزة اليوم تسقِط آخر أوراق التوت عن محور
المشروع الإيراني الذي لم يكن في الحقيقة إلا مجموعات مسلحة من أجل مصادرة فكرة
المقاومة وتحويلها إلى سلاح يفتك بالمقاومة الحقيقية نفسِها. سارعت إيران منذ
البداية إلى إنكار علاقتها بهجوم المقاومة الساحق في غزة مع محاولتها الإبقاء على
إيقاع الشعارات الرنانة عاليا كما جرت العادة في كل مناسبة مماثلة.
لكن على الجبهة المقابلة لم يتوقف قصف
الطائرات الإيرانية والروسية ومدافع النظام الممانع في سوريا عن دك مدينة إدلب
ومحيطها بالقنابل والصواريخ في مشهد تزامنت فيه عمليات الكيان الصهيوني في غزة مع
جرائم مليشيات إيران في إدلب.
على جبهة موازية سارعت المليشيات التابعة
لإيران في العراق واليمن والمنخرطة داخل محور المقاومة إلى رفع شعارات الاستهلاك
الشعبي لرفع الحرج أمام جماهيرهم. كما قامت ببعض المناورات الاستعراضية ضد البوارج
الأمريكية للتمويه على هروبهم من المشاركة في الدفاع عن الأرض المحتلة.
لم تتردد القوى
الفلسطينية المقاومة في
الدعوة الصريحة لميليشيات هذا المحور لكي تنخرط في مواجهة العدو بفتح جبهات جديدة
لكنها لم تجد آذانا صاغية ولم يتحرك محور المقاومة كما تحرك بالأمس لقتل السوريين
من أجل إنقاذ الأسد أو كما تحرك لوأد المقاومة العراقية عشية الغزو الأمريكي
للعراق.
النظام الرسمي العربي والاحتلال
لا يشك عاقلان اليوم في أن النظام الرسمي
العربي ممثلا في جامعة الدول العربية إنما هو الوكيل الإقليمي للنظام العالمي وأن
كل وكيل يحاول الخروج عن النسق المرسوم له مهدد بفقدان عرشه. بل إننا لا نبالغ في
القول بأن الحكومات العربية بما فيها الجيوش العربية نفسها إنما هي أدوات لحماية
مصالح النظام العالمي ومنع الشعوب من النهضة والتحرر.
لكن ما زاد الأمر وضوحا هو الخروج العلني
لرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو ليصرح
لأصدقائه من الحكام العرب بأن انتصار المقاومة سيكون هزيمة للكيان المحتل وهزيمة
مماثلة للنظام العربي. يربط الناطق باسم الاحتلال هزيمته بهزيمة النظام العربي
ويقصد به أساسا محور التطبيع الخليجي الذي أصابته حرب غزة الأخيرة في مقتل.
لا يشك عاقلان اليوم في أن النظام الرسمي العربي ممثلا في جامعة الدول العربية إنما هو الوكيل الإقليمي للنظام العالمي وأن كل وكيل يحاول الخروج عن النسق المرسوم له مهدد بفقدان عرشه. بل إننا لا نبالغ في القول بأن الحكومات العربية بما فيها الجيوش العربية نفسها إنما هي أدوات لحماية مصالح النظام العالمي ومنع الشعوب من النهضة والتحرر.
إن شعور النظام العربي بهذا التهديد الوجودي
هو الذي يفسر قمع المظاهرات المتضامنة مع فلسطين ومنعها في دول عربية كثيرة وهو
يفسر أيضا حجم المساعدات العسكرية التي تتدفق على دولة الكيان من دول عربية بحسب
وسائل إعلام، وإغلاق معبر رفح في وجه المساعدات من قبل النظام المصري.
صرح أكثر من مسؤول غربي بأن القادة العرب قد
طالبوه بسحق المقاومة في غزة سحقا وهو نفس ما أسرّ به رئيس سلطة أوسلو لقيادات
الاحتلال. إنّ هذه الكيانات الوظيفية إنما هي في الحقيقة الحزام الخارجي الذي يحمي
الكيان المحتل.
الوعي العربي الجديد
إن الوعي بهذه المعطيات الجديدة فيما يخص
محور "الممانعة والمقاومة" وتحالف النظام الرسمي العربي مع المشروع
الصهيوني يشكل أكبر المكاسب الجماعية لصالح الوعي الشعبي بعد حرب الإبادة التي
تجري في الأرض المحتلة.
لقد برهنت الشعوب عن عجز حركي وعن سكون مفزع
مريع بسبب فشلها في تحقيق ردّة فعل تناسب حجم الجرائم التي ترتكب في فلسطين وهو
عجز ناجم عن سطوة الاستبداد من جهة وجهل بطبيعة المعركة الوجودية من جهة ثانية.
هذا الجهل ناتج بدوره عن عقود من التجهيل والتخدير والتجريف الإعلامي الذي أفرز
أجيالا فاقدة للبوصلة مغيّبة عن كل فصول المعارك الحقيقية.
لكن الوعي الجديد الذي انطلق مع ثورات
الربيع وصولا إلى ملحمة غزة اليوم سيكون هاما لصالح الأجيال القادمة لأنه سيؤسس
إلى إدراك ملموس لطبيعة التهديد الوجودي الذي يمثله الاحتلال وهو تهديد لا يقتصر
على غزة ولا على فلسطين وحدها بل يشمل الوجود العربي الإسلامي في مجمله.
إن إدراك أكذوبة المقاومة والممانعة التي
رفعت شعارها الأذرع القومية العربية منذ بدايات القرن الماضي إلى جانب الوعي
بتحالف النظام الرسمي العربي مع المحتل الصهيوني يمثلان اليوم خطوتين في الاتجاه
الصحيح. هذا الاتجاه هو الذي سيصوغ ردود أفعال الأجيال القادمة تجاه الاستبداد
باعتباره حليف الاحتلال من جهة أولى وتجاه محور المقاومة والممانعة باعتباره شريكا
في جرائم الاحتلال.
إن أخطر ما يخشاه الاحتلال وما يرتعب منه
النظام الدولي هو أن تُجدّد المقاومة في غزة وعيَ الشعوب بطبيعة المعركة باعتبارها
معركة وجودية وبأن المقاومة قادرة على هزيمة الجيش الذي لا يهزم بأبسط الأسلحة.
هذا الخوف هو الذي يفسر حالة السعار الإعلامي المهيمنة على الخطاب السياسي
والإعلامي الغربي وهو الذي يشرح أسباب كل هذه الجيوش المجيشة وكل هذا القتل والقصف
العشوائي الموجّه نحو قطعة أرض صغيرة في المشرق العربي.