في أواخر آب/ أغسطس المنصرم ظهر مقطع فيديو
لقائد الجيش ورئيس مجلس السيادة
السوداني، عبد الفتاح البرهان، وهو يجلس في ساعة
مبكرة من الفجر، قرب سيدة تبيع المشروبات الساخنة على قارعة الطريق بالقرب من نقطة
ارتكاز لجنوده، وكان بذلك يعلن أنه ليس محاصرا في سرداب في مقر القيادة العامة
بالجيش، كما يروِّج لذلك محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، التي
تخوض حربا ضد الجيش السوداني، تدور أشرس وقائعها في العاصمة السودانية، الخرطوم،
ومحيطها الجغرافي (زعم حميدتي مرارا أن البرهان يختبئ في "بدروم" طلبا
للسلامة، وعنى بها "بدرون" وهي كلمة فارسية ـ تركية تعني غرفة تحت
الأرض، وشائعة الاستعمال عند المصريين، مما يشي بأن حميدتي لا يعرف أن بدروم كلمة أنجليزية
تعني غرفة النوم).
البرهان، وهو
قائد الجيش ورأس الدولة
السودانية، لا يملك وسيلة إعلام يعلن من خلالها بياناته وقراراته، لأن مقرات
الإذاعات ومحطات التلفزة الرسمية تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، كما نحو 45 موقع
استراتيجي وعسكري آخرين، كان البرهان قد أوكل أمر حراستها لقوات حميدتي، عندما
كانا حلفاء في السلطة والمنشط والمكره، منذ نيسان/ أبريل من عام 2019، ومن ثم
فالبرهان يعتمد على جوقة "مطبلاتية" في واتساب وفيسبوك، ليتولوا الإعلام
عن كل ما يصدر عنه، فكان أن صوروا خروجه وجلوسه قرب بائعة الشاي والقهوة، وكأنما
قام بـ "فتح عكا"، كما يقال عمّن يأتي عملا خارقا.
ليس معروفا كيف خرج البرهان من حيث كان
محاصرا، طوال أكثر من أربعة أشهر، ولكن راجت أقوال بأن ذلك تم بتوافق مع قوات
الدعم السريع وسند خارجي، بينما حرص هو على تأكيد أن خروجه كان بترتيب من الجيش
(على ما في ذلك من اعتراف بأنه كان محاصرا)، ثم طاف بعدد من القواعد العسكرية في
شمال وشرق السودان، وكعادته، فإنه وكلما وقف أمام جنوده أطلق للسانه العنان، ونطق
بمفردات التحدي والبطولة: لن نفاوض الدعم السريع بل سنقضي عليهم. ثم وفي محطة
أخرى: يا كمّلونا يا كمّلناهم (وكمّل في العامية السودانية تعنى الإفناء تماما
واستنفاد الشيء)، وهنا أيضا تنازل عن فكرة القضاء تماما على الدعم السريع، وطرح
احتمال ان يقضي الدعم السريع تماما على الجيش، ولكن ما كرر قوله في كل المواقع
العسكرية ـ بغض النظر عن زلات لسانه ـ إنه لن يفاوض الدعم السريع بشأن وقف الحرب.
ثم اتضح أن الغاية الأساسية من خروج البرهان
من الخرطوم، كانت أن يقدم نفسه داخليا وخارجيا كرجل دولة ورئيس للسودان، وهكذا
انطلق إلى مصر حيث التقى برئيسها السيسي (ولكنه لم يؤد له التحية العسكرية كما فعل
في أول زيارة له لمصر عام 2019)، وفي القاهرة نسي "لا" عدم التفاوض مع
الدعم السريع، وصرح بأنه لا نهاية للحرب إلا بالتفاوض.
كيف خرج البرهان من الخرطوم لم يعد مهما، ولكن وبما أنه أنكر حدوث توافق مع قوات الدعم السريع على خروجه، وواصل كيل الاتهام لها، فإن عودته إلى الخرطوم ستتطلب ترتيبات استثنائية، ولهذا فإنه وإلى حين "يفرجها ربنا"، سيظل في بنغازي السودانية
وانطلق من مصر إلى جمهورية جنوب السودان،
والتقى برئيسها سلفا كير، الذي سبق للبرهان أن طالب بأن يكون رئيس اللجنة التي
تطرح المبادرة الأفريقية لوقف الحرب، بدلا من الرئيس الكيني وليم روتو، الذي اتهمه
البرهان بأنه منحاز للدعم السريع، وهنا أيضا كانت المفاجأة. إذ يبدو أن الرئيس
الجنوب سوداني أبلغه بأن الاتحاد الأفريقي الذي طرح المبادرة لا يعمل بأسلوب
"ما يطلبه المستمعون"، وأن بقاء روتو على رأس المبادرة محسوم ومحتوم،
وعلى ذمة روتو فقد تم اتصال بينه وبين البرهان، حيث سحب الأخير اتهامه لروتو بعدم
الحيدة ورحب ببقائه على رأس لجنة المبادرة.
وعلى صعيد مجريات الحرب ما زالت المبادرة
عند الدعم السريع، فهو الذي يهاجم ويحاصر، وطوال الشهور الأربعة الأخيرة لم يصدر
عن القوات المسلحة التي يقودها البرهان، ما يفيد بأنها أحرزت أي قدر من الانتصار
لدحر "العدو" أو زحزحته من مواقعه، وصدر عن البرهان اعتراف ضمني بضعف
أداء الجيش، عندما قال خلال زيارة حامية سنكات في شرق السودان، ان الحرب أبانت
الحاجة لبناء جيش "محترف".
نفذ البرهان انقلابا على حكومة مدنية كان
طرفا فيها في 25 تشرين أول/ أكتوبر من عام 2021، ومنذ وقتها وهو عاجز عن تشكيل
حكومة، ثم جاءت الحرب وهلهلت ما هو موجود من هياكل الحكم، ولجأ وزير المالية الى
ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، طلبا للأمان ولعائدات الميناء، ثم إذا بوزارة
الخارجية السودانية تعلن عن عزمها على تشييد مبنى خاصا بها في بورتسودان، ومعه
قاعة للمؤتمرات وفلل رئاسية (لإقامة ضيوف البلاد من الرؤساء الأجانب) ومحطة للطاقة
الشمسية، وبهذا تصبح بورتسودان النسخة السودانية من بنغازي الليبية، على ان تبقى
الخرطوم توأما لطرابلس الغرب.
كيف خرج البرهان من الخرطوم لم يعد مهما،
ولكن وبما أنه أنكر حدوث توافق مع قوات الدعم السريع على خروجه، وواصل كيل الاتهام
لها، فإن عودته إلى الخرطوم ستتطلب ترتيبات استثنائية، ولهذا فإنه وإلى حين
"يفرجها ربنا"، سيظل في بنغازي السودانية، حتى بعد عودته من نيويورك بعد
المشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي بدأت سلفا، وفي جميع
الأحوال فإنه يعي أن قول الشاعر:
دخول الناس في الشبكات هين **** ولكن التأمل في الخروج
معكوس في حالته، إذا كان الخروج من الشبكات
(أرض المعركة) هينا نسبيا، وبقي الأمر الأصعب: العودة ودخول تلك الشبكات مجددا..