كان النَّاس
يميلون في الزَّمانِ القديمِ إلى فهمِ الكونِ والحياةِ بطريقةٍ سكونيَّةٍ، فهم
يستيقظون كلَّ صباحٍ فيرون بملاحظتهم المباشرةِ الشمسَ تدور حول الأرضِ ويرون
الأرض ثابتةً تحتهم، ويرون عناصر الطبيعةِ ثابتةً وذات الكائنات الحية تشاركهم،
ويرون الجبال والبحار ثابتةً لا تتزحزح من مكانِها، ويرثون عن آبائهم نفسَ
العاداتِ وطريقةَ العيشِ والملَّةِ دون تغييرٍ ملحوظٍ.
لكنَّ ثورةً
حدثت في تاريخِ الإنسانِ عبر اكتشافِ مجموعةٍ من الحقائقِ التي قلَبت هذا التصوُّر
السكونيَّ الثابتَ، فقد اكتشف
كوبرنيكوس أنَّ الأرض التي تحتنا هي التي
تتحرك وتدور حولَ الشمسِ، ثمَّ وضع تشارلز دارون نظريَّةً أبطلت الفهم السائد
للمخلوقات بأنها في حالةِ ثباتٍ، وقال إنَّ هناك حركةً تطوريَّةً تحكم
المخلوقات وتدفعها إلى النَّماء..
هذه الكشوفاتِ أحدثت زلزالاً عظيماً في نفوسِ النَّاسِ، فقد حاربت الكنيسة هذه الآراءَ واتهمت الكنيسة جاليليو الذي راقب حركة السماءِ بالهرطقةِ، وقوبلت نظرية دارون بانتقاداتٍ عنيفةٍ
مثل هذه
الكشوفاتِ أحدثت زلزالاً عظيماً في نفوسِ النَّاسِ، فقد حاربت الكنيسة هذه الآراءَ
واتهمت الكنيسة جاليليو الذي راقب حركة السماءِ بالهرطقةِ، وقوبلت نظرية دارون
بانتقاداتٍ عنيفةٍ.
منطلق هذه
المعارضة العنيفةِ لم يكن علميّا إنَّما هي منطلقاتٌ نفسيَّةٌ، لأنَّ التفسير
السكونيَّ السائد والمتوارَثَ يمنح النفوس شعوراً بالراحة والثباتِ، بينما القول
إنَّ الكونَ في حالةِ حركةٍ وتطوُّرٍ وتغيُّرٍ يُخرج الإنسان إلى حالةِ القلقِ
ويفرض عليه نشاطاً عقليّا دائماً.
توجَّسَ
الناسُ خيفةً من الثمنِ النفسيِّ الذي سيتعيَّن عليهم دفعه مع ولادةِ هذه النظرةِ
الجديدةِ إلى الحياةِ، فهم يشعرون بالراحة والثباتِ لأنهم يرون كلَّ ما حولهم
ساكناً مستقراً، ثمَّ يأتي من يقلقل هذا السكون فيقول لهم إنَّ هذا الكونَ والأرض
التي تنامون عليها تموجُ بالحركةِ والتغيُّر.
ظهرَ
القرآنُ في ذلك الزمانِ السكونيِّ الذي تتعاقب فيه الأجيالُ دون تغيُّرٍ ملحوظٍ في
رتابةِ الحياةِ، لكن من اللافتِ جداً لمن يتدبره بقلبٍ واعٍ وأفقٍ واسعٍ أن ذلك
الكتابَ الذي ظهر في الزمانِ القديمِ يحمل نظرةً ثوريَّةً في تفسيرِ الخلقِ
والحياةِ، إذ إنَّ الروحَ السائدة في القرآنِ تحرِّض الإنسانَ على فهمِ الكونِ
والحياةِ أنَّها في حالةٍ دائبةٍ من الحركةِ والازديادِ والنَّماء.
لننظر في
هذا الحشدِ الكثيفِ من الإشاراتِ القرآنيَّةِ إلى حقيقةِ أنَّ الوجودَ كلَّه في
حالةِ نماءٍ وتغيُّرٍ وازديادٍ: "إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً" (النِّساء: 133).
ظهرَ القرآنُ في ذلك الزمانِ السكونيِّ الذي تتعاقب فيه الأجيالُ دون تغيُّرٍ ملحوظٍ في رتابةِ الحياةِ، لكن من اللافتِ جداً لمن يتدبره بقلبٍ واعٍ وأفقٍ واسعٍ أن ذلك الكتابَ الذي ظهر في الزمانِ القديمِ يحمل نظرةً ثوريَّةً في تفسيرِ الخلقِ والحياةِ، إذ إنَّ الروحَ السائدة في القرآنِ تحرِّض الإنسانَ على فهمِ الكونِ والحياةِ أنَّها في حالةٍ دائبةٍ من الحركةِ والازديادِ والنَّماء
هذه الآية
تخاطب الوجود الإنسانيَّ كلَّه منذ آدم أنه مجرد حلقة في سلسلة طويلة يمكن أن يذهب
ويحلَّ محله خلقٌ آخرون! والأثر النفسي لهذه الآية أنها تُقلق النفسَ الإنسانية وتُخرجها
من حالة الثباتِ الذي يقود إلى الضمورِ.
ومثلها في
سورة الأنعام: "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ
ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" (133). في هذه الآية نفس المعنى مع إضافةٍ وهي:
"كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين".
لا يخبرنا
القرآنُ تحديداً من هم القوم الآخرون الذين أنشأنا الله منهم، لكنَّ روح هذه الآية
أنها تودع في الإنسان ألا يشعر بالثباتِ، بل أن يعلم أن وجوده مجرد حلقة في سلسلةٍ
متعاقبةٍ وأنَّ احتمال انقراضه ليس مستبعداً.
وفي سورة
نوح: "وقد خلقكم أطواراً"، وفي سورة إبراهيم: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ" (19)، وفي سورة فاطر: "إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ" (16).
جرت العادة أن
نفهم مثل هذه الآيات بأنها تتحدث عن احتمالاتٍ افتراضيَّةٍ، لكن الله لا يفترض
عبثاً، وكلُّ ما يقوله يمكن أن يكونَ فعلاً، فما دام الله يخبرنا أن مشيئته تحتمل
أن ينقرض الوجود الإنساني وأن يأتي خلق جديدٌ، فهذا الاحتمال يقتضي أنه أودع
قدراتٍ وقوانينَ في هذا الكونِ للتطور والتغيُّر. هذا هو منهج الفهمِ العلميِّ
السننيِّ للقرآن.
وفي سورة
الزخرف: "وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي
الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ" (60).
بذاتِ
طريقةِ القراءةِ السائدةِ للقرآنِ فإنَّنا نفهم مثل هذه الآيات أنها تتحدث عن
افتراضاتٍ بعيدةٍ يقتضي تحقيقُها معجزةً خارقةً، لكنَّ العقلَ العلميَّ يفهم من
هذه الآياتِ أنَّها تشير إلى قوانين كامنةٍ فعلاً في الوجودِ!
كيف يمكن أن
يصير الإنسان ملاكاً يخلف في الأرض؟ أي أنها لا تتحدث عن يوم القيامةِ والجنَّة.
ألا ُيفهم
من هذه الآية إشارة إلى أن الإنسان لم يبلغ أعلى درجات السلم التطوريِّ بعد، ولا
يزال في ممكناتِه المزيد! وأنَّ هناك قدراتٍ روحيَّةً كامنةً فيه إذا أسفرت تلك
القدرات عن نفسِها فإنه يرتقي إلى الحالة الملائكيَّة! خاصةً أن هذه الآية تعقبُ مباشرةً
الحديث عن عيسى عليه السلام.
حدسَ جلال
الدين الرومي معنى قريباً في الارتقاء من حالة الإنسانيَّة إلى حالة
الملائكيَّةِ في قولِه:
"وفي
ميلادٍ جديدٍ غطستُ تحت الماء..
وطرتُ في
الهواء..
وزحفتُ.. وجريتُ..
وتشكلت كلُّ
أسرار وجودي في صورة أظهرتها للعيان..
فإذا أنا
إنسان..
ثم صار هدفي
في أن أكون في صورة ملاك..".
في سورة
العنكبوت: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ" (20).
وفعل
"بدأ" يعني أنَّ هناك مراحلَ لاحقةً، أي أن الخلقَ لم يوجده الله في
لحظةٍ واحدةٍ ثم توقَّف النماء بل هناك سلسلةٌ تطوريَّةٌ، وتختم الآية: "ثمَّ
الله ينشئ النشأة الآخرة"، والآخرة لا تأتي في
القرآن بمعنى يوم القيامةِ
وحسب، إنما تأتي بمعنى اللاحقةِ أو الثانيةِ، ففي الدنيا التي نعيش فيها هناك
نشأةٌ آخِرةٌ، ومثال ذلك في القرآن في قوله عن فرعون: "فأخذه الله نكال
الآخرة والأولى"، أي الثانية.
كلمة بدأ تدل على أنَّ هناك مراحل لاحقة.. ولا أقصد هنا تكلُّفَ تفسيرٍ علميٍّ للقرآنِ، إذ إنَّ اكتشاف الحقائق الطبيعيَّة ميدانه السير في الأرضِ وليس البحث بين سطورِ القرآنِ، والكونُ مقدَّسٌ كما أنَّ القرآنَ مقدَّسٌ، فالكون أيضاً كلماتُ اللهِ تعالى، لكنَّ المقصدَ هو لفت الأنظارِ إلى الروحِ التطوريَّةِ العامَّة التي يحملها القرآن
وقصة خلق
آدم في القرآنِ التي يظن كثير من المسلمين أنها تبطل نظرية
التطور فإنها تتضمَّن
إشاراتٍ تطوريَّةً: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ" (السَّجدة: 7).
كلمة بدأ
تدل على أنَّ هناك مراحل لاحقة.. ولا أقصد هنا تكلُّفَ تفسيرٍ علميٍّ للقرآنِ، إذ
إنَّ اكتشاف الحقائق الطبيعيَّة ميدانه السير في الأرضِ وليس البحث بين سطورِ
القرآنِ، والكونُ مقدَّسٌ كما أنَّ القرآنَ مقدَّسٌ، فالكون أيضاً كلماتُ اللهِ
تعالى، لكنَّ المقصدَ هو لفت الأنظارِ إلى الروحِ التطوريَّةِ العامَّة التي
يحملها القرآن. ويدعونا إلى فهم الكونِ بمنظارِها.
يكرِّرُ
القرآن كثيراً تعبير "يبدأ الخلق ثم يعيده":
- "..
إنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." (يونس: 4).
- "قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ" (يونس: 34).
- "أَمَّنْ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.." (النَّمل: 64).
- "اللَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (الروم: 11).
بدء الخلق
ثم إعادته تعني حالة صيرورة وانتقالٍ دائمٍ تتخلل الكونَ. والقرآنُ يلقي في وعينا
أنَّ الصيرورةَ والزيادة والتوسُّع هو قانون الكونِ كلِّه: "يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (فاطر: 1).
وتشير سورة
الذاريات إلى توسُّعِ الكونِ: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ" (47).
واللافت
أنَّ العلماء لم يكتشفوا حقيقة توسع الكونِ بعد أن رصدوا تباعد المجرّات إلا في
العصور الحديثةِ، ولم يكن هذا المعنى حتى في دائرة المخيلة الإنسانية في زمان نزول
القرآن إذ كان الناس يرون كل شيء ثابتاً مستقراً، فأنّى لهم أن يخطر ببال أحدهم أن
هذا
الكون في حالة زيادةٍ واتساعٍ.
يستفزُّ القرآنُ
الميلَ الإنسانيَّ إلى الفهمِ السكونيِّ الثابتِ للكونِ، فيخبره أنَّ هذا الكونَ
له بدايةٌ وستكونُ له نهايةٌ أيضاً:
- "أَوَلَمْ
يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً
فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا
يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء: 30).
- "يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء: 104).
والجبالُ
التي يراها الإنسان بملاحظته البصريَّة المباشرة ثابتةً فينبِّهه القرآنُ أنَّها
في حالةِ حركةٍ: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ
مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَفْعَلُونَ" (النَّمل: 88).
لا يمكنُ تفسيرُ الجمودِ العقليِّ وتوقف النماءِ الحضاريِّ في أمَّةٍ يفيض كتابُها المقدَّس كلَّ هذا القدرِ من الروحِ التطوُّريَّةِ النمائيَّةِ الحركيَّةِ إلا بأنَّ موقفها من هذا الكتابِ لا يزالُ أقربَ إلى التبرُّكِ منه إلى تدبُّرِه وانفتاحِ القلبِ على معانيه وهدايته
يوسِّع
القرآن إطارَ العقلِ في فهمِ الكونِ ليعلمَ أنَّ الخلق في حالةِ صيرورةٍ وزيادةٍ
وحركةٍ دائبةٍ:
- "كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (الرحمن: 29).
- "وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يس: 40).
والتطوُّر
الذي قدَّره اللهُ قانوناً في الحياةِ يعني أن الوجودَ يحمل بذورَ الصيرورةِ إلى
ما هو خيرٌ وأتمُّ: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
(البقرة: 106).
هذا الإطارُ
التفسيريُّ للكونِ يقتضي أن يكونَ الإنسان نفسُه في حالةِ حركةٍ ونشاطٍ دائمٍ
متناغماً مع حركةِ الوجودِ وحقيقة الحياةِ، وألا يختارَ الجمود والتوقُّفَ لأنَّ
في ذلك ضمورَه وموتَه: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (الانشقاق: 19).
لا يمكنُ
تفسيرُ الجمودِ العقليِّ وتوقف النماءِ الحضاريِّ في أمَّةٍ يفيض كتابُها المقدَّس
كلَّ هذا القدرِ من الروحِ التطوُّريَّةِ النمائيَّةِ الحركيَّةِ إلا بأنَّ موقفها
من هذا الكتابِ لا يزالُ أقربَ إلى التبرُّكِ منه إلى تدبُّرِه وانفتاحِ القلبِ
على معانيه وهدايته: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمَّد: 24).
twitter.com/aburtema